تتنشق عبيره الطيب كأنه نغم يأخذك للإغتسال بماء الطمأنينة .. إنه الصابون النابلسي .. ونتصور أنه في حمامات الماء والبخار التركية يحضّر الصابون النابلسي من ماركات شهيرة ..أشهر من أسمائنا التي ربما لا نعرف الكثير عنها.
لنتذكر تلك الأسماء المحفورة في الاذهان ومنها مثلاً صابون : (الجمل ) و(النعامة) و(المفتاحين) و(كنعان) وأخرى أقل شهرة مثل : الديك ؛ والبدر ؛ والحمامتين ؛ والهلال ؛ والنجمة ؛ وأصحاب هذه الماركات الشهيرة من الصابون والذي مازال أكثره يصنع في نابلس حتى الآن هم أيضاً من العائلات المعروفة مثل : المصري ؛والرنتيسي؛ والشكعة ؛ وكنعان ؛ والنابلسي ؛وفطاير ؛ وطوقان ؛ وعرفات ؛ وعبد الهادي.
الصابون بين الأردن وفلسطين
وفي بداية القرن التاسع عشر كانت هناك علاقات تبادل إقتصادي مابين الضفتين حيث كان البدو من أهل البلقاء يقومون بجمع رماد نبات الحمض الذي كان يعرف بالقلو أي (القلويات) أو الأشنان .. الذي ذكره الرحالة والمؤرخ الأجنبي بركهات عندما قدم إلى هذه المدينة حيث قال : في مدينة السلط تجارة مزدهرة تزيد على الثلاثة آلاف حمل جمال يشتريها أصحاب مصانع الصابون في نابلس عن طريق متعهد هو التاجر (ناصر أبو جابر) ليستعملوها في إنتاج الصابون النابلسي ذي الشهرة الواسعة .
أما الباحث محمد مراد فيشير قائلاً حول ذلك : ولما كانت صناعة الصابون تحتاج لمكملات فقد شكلت عملية الإنتاج ركيزة الإعتماد المتبادل للنشاطات الإقتصادية بين بدو البلقاء وأصحاب المصابن في نابلس ؛ فمن جانبهم وفر البدو إحدى أهم المواد الأولية الأساسيه التي تدخل في طبخ الصابون ؛ وهي نبات القلو أو القلي ؛ إذ ظلت أعداد كبيرة من قبائل بني صخر والحويطات والعدوان تجمع نبات القلي الذي ينبت بكثافة في أودية معان والجيزة والحسا وحول السلط في أيام الصيف ويحرقونه ثم يعبئون فحمه المحروق في أكياس ويأتون بقافلة تصل لألف جمل فيتعاقد رئيسها مع تجار الصابون في السلط بثمن مخصوص وشروط مخصوصة .
البلقاء ... نابلس
وما يشير لكبر حجم قوافل (القلي) ما يرد بوثائق بلدية نابلس التي تفيد أن أجراس الجمال التي كانت تدخل المدينة صارت تزعج الناس فتشير وثيقة تعود لعام 1923؛ إلى إعلان من البلدية لخفض أجراس الجمال منعاً للضوضاء ؛ وهو ما يؤشر على حجم الأحمال والتجارة التي تنقلها جمال البدو وعلى رأسها أحمال نبات القلو / القلي .
ويذكر إحسان النمر في تأريخه لجبلي نابلس والبلقاء ؛ أن صلة جماعة المصابنية في نابلس بالعشائر البلقاوية استمرت إلى آخر العهد العثماني إذ كانت قوافل الحويطات تصل إلى ألف بعير يأتي إلى نابلس حاملة قلي(قلو) باديتهم إلى مصابن نابلس ليتماروا بأثمانها من أسواق نابلس وقد ظل شيوخ الحويطات يكرمون كل نابلسي طيلة حياتهم ويذكرون تلك الصلة .
كان أفضل أنواع القلي / القلو في عملية طبخ الصابون النوع الحلو الجيزاوي نسبة لمنطقة الجيزة جنوب عمان اليوم – لأن النوع المالح لا ينفع.. ويعلق الرحالة بركهات الذي زار المنطقة مطلع القرن التاسع عشر على الالتزامات المتبادلة بين البدو وأصحاب المصابن وتجار الصابون في نابلس بما يلي : إن عرب البلقاء ولا سيما بني صخر يجلبون القلو أو رماد الصابون إلى السلط وكانوا يحرقونه في الصيف بكميات كبيرة ... ويشتريه تاجر نابلسي لم يزل يحتكر هذه التجارة منذ أعوام .
ويعتبر رماد الصابون المستخرج من نبات الشمان في البلقاء الأفضل ؛ لكن على المشتري أن يؤدي مكوسا عنه ؛ شيخ عرب العدوان يقتطع خمسة قروش عن كل حمل وتستوفي بلدة السلط قرشا عن كل حمل .
مصانع الصابون
إن وفرة الزيتون كانت السبب الرئيسي في توفر بيئة مناسبة لصناعة الصابون في نابلس ؛كما ساعد انتشار الحمّامات التركية العامة في المدينة في استمرار هذه الصناعة وزيادة الطلب عليها ؛ فقد ارتبط الصابون النابلسي قديما بالحمامات العامة إذ كان العامل ينتهي من عمله مساء ويشتري قطعة من الصابون ويذهب بها إلى أحد الحمامات ليغتسل .
تشابهت المصابن في هيكلية البناء لدقة العمل وخصوصيته فكانت تنقسم إلى أقسام رئيسة : أول هذه الأقسام يشتمل على الآبار التي تقع تحت الطبقة الأرضية وفيه يخزن الزيت وقد تراوح عدد الآبار من ثلاث آبار إلى سبع واختلفت سعة كل منها من خمسة أطنان إلى ثلاثين أو أكثر والبئر الكبرى كانت تسمى البحرة بينما كانت تسمى الصغرى الجانبية وتلفظ الجنيب .
أما القسم الثاني فيحتل كل الطبقة الأرضية ذات السقف العالي والذي صمم لامتصاص الحرارة المنبعثة من عملية الطبخ وفي مؤخرة الطبقة الأرضية وعلى جانبيها كانت تقوم مستودعات المواد الأولية الأخرى: القلو والشيد وخزان ماء وكان القميم يقع تحت مستوى الطبقة الأرضية ويتم الوصول إليه عبر بضع درجات وفوق القميم كانت القدر النحاسية التي تزن نحو طن ؛ وفي جوار القميم كانت بئر الزيت الجنيب التي كانت تتسع للكمية نفسها من زيت الزيتون التي تستوعبها القدر ؛ وقد صمم موقع هذه البئر بحيث يوفر الوقت في عملية الكيل ويتم الحفاظ على الطاقة ؛ فعندما تنتهي الطبخة الأولى تكون الثانية أصبحت دافنة للشروع فيها .
والقسم الثالث من المصبنة كان يسمى المفرض ؛ وكان يحتل الطبقة الثانية كلها ؛ وهناك كان الصابون ينشر ويقطع ويجفف .
طريقة التحضير
في مراحل الإنتاج الأولى كان يوضع مزيج القلو الشيد في جرن حجري ثم يدق بمهباش خشبي حتى يصبح مسحوقاً ناعما ؛ وفي هذا الوقت يسارع العامل في المصبنة لفرش الشيد في حوض قليل العمق وينقع في الماء حتى يجف ؛ ثم يطحن المادة طحنا ناعما ليخلِط بعد الإنتهاء من ذلك المسحوقين ويضعهما في صف من أحواض التخمير وهي ثلاثة إلى ستة في العادة مرتفعة عن الأرضية .
وتأتي بعد ذلك مرحلة صب الماء الساخن من مبزل يقع في أسفل القدر النحاسية لأن الزيت يبقى في الأعلى وعندما يمتص المحتوى الكيماوي للمزيج يجري تقطيره قطرة قطرة في مجموعة مماثلة من الأحواض أدنى من نظائرها وأعمق منها .
تكرر هذه العملية حتى الوصول للمحتوى الكيماوي للماء إلى درجة معينة من القوة ثم يضاف هذا الماء إلى القدر النحاسية كي يمتص الزيت المواد الكيماوية وتنتهي الدورة ؛ وكانت هذه الدورة تتكرر عشرات المرات (متوسطها 40 مرة) بينما يحرك سائل الصابون الساخن في القدر باستمرار بواسطة الدكشاب ..وهو قطعة خشبية شبيهة بالمجذاف .
وليد سليمان
جريدة الرأي