بشارة غصيب .. الشمعة التي لم تنطفئ



كان مؤمناً بالمبادىء السامية والقيم النبيلة ، ومكرساً حياته لنصرة المستضعفين وأصحاب الحقوق ، جاعلاً من الصدق والوضوح ونظافة اليد واللسان ركائز حياة ومناهج عمل ، فكان بشارة غصيب محط احترام وتقدير العامة والخاصة على السواء ، فلم يختل موقفه ولم تتبدل أحواله عندما صعد نجمه، وتسلم أعلى المناصب الإدارية والسياسية ، بل كان بوجه واحد زاده صفاء السريرة ونقاء القلب.

ينتسب بشارة غصيب لعائلة الطعامنة المعروفة ، وكانت مدينة السلط حاضرة البلقاء مسقط رأسه ، وتوافق تاريخ ولادته مع إطلالات القرن العشرين ، فلقد ولد نحو سنة 1906م ، أو قبل ذلك بقليل ، كما يذكر ذلك الدكتور هاني العمد ، فلقد عمل والده معلماً في مدرسة اللاتين ، غير أن الأقدار غيرت مسار هذه العائلة ، فلم يطل العمر بوالد بشارة ، فتوفي شاباً قبيل قيام الحرب الكونية الأولى ، ولعل لهذه الحادثة أثرها في بشارة، الذي كان ينعم بشقاوة الطفولة ، ولا شك أن لغياب الأب عمود البيت، ومهما كانت ظروف الأسرة من شأنه أن يحمل الابن مزيداً من المسؤولية ، وهذا ما جعله أهلاً للمراحل القادمة وقسوتها.

درس بشارة في مدرسة اللاتين لفترة من الزمن ، بعد ذلك ذهب إلى مدينة القدس ، وانتظم في مدرسة فرنسية داخلية (مدرسة الفرير). لكن المشيئة المكتوبة قضت على حلمه في تلك الفترة ، فلقد اندلعت الحرب العالمية الأولى ، وأغلقت المدرسة مما اضطره للعودة إلى السلط ، وليستعد بعد ذلك لدخول مرحلة العمل والإندغام في السلك الوظيفي ، وبدأ من أول درجات السلم ، فالتحق بوظيفة في المحكمة ككاتب للمحاضر ، وعمل في مأمورية الإجراء وكتابة العدل ، وكذلك عمل في رئاسة الكتاب ، ولقد فسحت له هذه الوظائف الفرصة ليتنقل بين عدد من المدن الأردنية متحملاً مشاق العمل وكثرة الترحال ، هذا التنقل الذي وسّع من آفاقه ومكنه من الإطّلاع مباشرة على أوضاع الناس ومشاكلهم ، وتوّجت جهود في الوظيفة عندما أصبح عضواً في محكمة بداية الكرك ، وإربد بعد ذلك.

وندرك ان العمل في المحاكم يجعل الاحتكاك بالمظلومين وأصحاب الحقوق متاحاً بشكل كبير ، لذا كان انحيازه لنصرة المظلوم والضعيف منهجاً صبغ حياته العملية والسياسية ، ولم يهادن في ذلك حتى لو كان المظلوم متهما بفعل سياسي معارض ، وقضية محاكمة زعماء الشمال بتهمة التآمر، وتوقيعه على براءتهم شاهد على هذه الروح الحرة ، فهو ينتصر للضعفاء ومن يراه على حق ولا يبالي بالعواقب ، وقد ناضل في عمله واجتهد فيه، حتى عيّن قاضياً في محكمة الاستئناف العليا التي تعتبر أعلى سلطة قضائية في ذلك الحين.
كانت حياته الاجتماعية والأسرية هادئة ودافئة ، ففي العام 1943م دخل القفص الذهبي متزوجاً من وداد آل بيوض من لبنان ، حيث انجبت له همام وهشام الأكاديميين المعروفين ورهام وسهام ، ورهام أصبحت فنانة معروفة أما السيدة سهام فقد توفيت برصاصة طائشة (د.هاني العمد) .

تؤكد سيرة بشارة غصيب حبه لوطنه وإيمانه العميق بالأفكار القومية ، فلقد ارتبط خلال شبابه مع سليمان النابلسي ، وكانت معه ثلثة من الشباب المتعلم ، فكانوا يرقبون الأحداث ويعبرون عن آرائهم ، وقد هدد عندما انتصر للنابلسي بالإبعاد ، وهو ما يدلل على جرأته وعدم تخليه عن أصدقائه ومبادئه.

ونظراً لأن الظروف لم تمكّنه من الحصول على شهادة جامعية ، وانشغاله في الوظيفة حال دون تحقيق هذه الغاية ، فقد سنحت الفرصة عندما فسحت وزارة العدلية المجال لموظفيها الإنتساب لمعهد الحقوق في القدس ، فسارع إلى ذلك تحدوه الرغبة ، فرغم صعوبة الدراسة ومكابداتها إلا أنه تمكن من الحصول على درجة الليسانس في الحقوق.

في الفترة نفسها تقريباً أنشئت دائرة ضريبة الدخل ، وعيّن مديراً لها بأمر ملكي حينئذٍ ، وعندما كلّف سمير الرفاعي بتشكيل حكومته الثانية عام 1947م ، دعاه لتولي منصب وزير العدل ، وتعرّض خلال مهامه هذه لضغوط من أجل تسليم المطلوبين إلى حكومة فلسطين ، لكنه عاد من خلال حكومة سمير الرفاعي الثالثة ليشغل منصب وزير المواصلات ضمن التعديل الوزاري ، وقد مرّ خلال منصبه هذا بظروف صعبة مندغماً بذلك مع حال الوطن والامة ، فلقد استشهد الملك المؤسس عبدالله الأول ابن الحسين على بوابة المسجد الأقصى ، حيث وصف مشاعره بقوله (... مزق نياط القلب ، وحطم الاعصاب ، وشتت الفكر ، ومر وقت طويل قبل أن نتمكن من تجاوز المحنة ) . (المصدر السابق).

وقد تكرر دخوله في تشكيلات الحكومات المتعاقبة وخروجه منها ، وكان يعمل بين الوزارة والوزارة في المحاماة، منافحاً عن الحق ومساعداً كل من يحتاج من أهل المظالم ، فلقد أصبح وزيراً ثماني مرات ، وعلى مدى سنوات تلاحقت وتباعدت و زادت عن العشر سنوات ، وخدم مع رؤساء وزارات بدءاً بسمير الرفاعي وسعيد المفتي وهزاع المجالي وابراهيم هاشم ، وأخيراً كان وزيراً للأشغال في حكومة بهجت التلهوني عام 1967م.

أختير عضواً في مجلس الاعيان عام 1955م ، وقد عيّن أيضاً عضواً في محكمة الاتحاد العليا خلال فترة الإعداد لتوحيد الأردن والعراق ، لكن قيام الانقلاب العسكري في العراق أجهض مشروع الوحدة بين البلدين . بعد ذلك أصبح رئيساً لديوان الموظفين برتبة وزير ، حتى أحيل على التقاعد عام 1966 م ، وفي العام الذي يليه أصبح نائباً عن السلط بعد نجاحه في الانتخابات التي جرت حينها ، واستمر نائباً عن السلط حتى العام 1974 م ، عندما حل المجلس في أعقاب مؤتمر القمة العربية في الرباط.

كان بشارة غصيب مفعماً بالحيوية ، جاداً ومجداً ، لا ينفك يعمل وقد زودته الحياة العملية والسياسية بخبرات وافرة ، مكنته من خدمة وطنه وأمته كما تكون الخدمة في أروع صورها ، فلقد أفنى عمره في الانجاز وحب الناس حتى توفي في 9/3/1982م في مستشفى ملحس بعمان إثر عملية جراحية ، وتم تشييع جثمانه إلى مقبرة أم الحيران في اليوم التالي ، وقد خرجت عمان والسلط وكبار رجال الدولة لوداعه ، وكان بحق فقيد أمة ، ورمزاً من رموز الوطن ومن رجالاته الاوفياء ، وما زال حاضرا في الذاكرة الوطنية مثل شمعة لا تنطفىء.

هزاع البراري
جريدة الرأي
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))