فتح نوّار الوادي

لا بد أن تصعدي! إذن، يالله على وادي السلط؛ فتح نوّار الوادي واخضر الحور! هذه المرة ليس لتلمي الزهور فقط، هذه المرة لكي تلمي باقات روحك التي اخضرّت وهي تستخلص الرحيق من الوديان والينابيع حنينا تعرفين إلى من هو ، روحك التي زهّرت وهي تلاحق عبق الكرامة في الجدعة والسلالم والقلعة، وأينعت وهي تجري وراء ندهة غزال من وراء شباك في شارع الحمام خذ روحي معك . خذها صعودا من عشرينيات القرن الماضي إلى الآن-هنا ؛ فالزمان واحد حين مدى الروح حاكم مطلق!

قبل بزوغ الفجر تقفين خلف البوابة الرئيسية في نهاية شارع الحمام، ترهفين السمع للخطوات القادمة من الداخل وتتخيلين ملامح اليدين وهما تتهيئان لتفتحا البوابة مشرعة أمانا للداخلين.

منذ أول الخطوات تؤخذين بوحدة قَدَر المكان والإنسان والحدث، كأن السلط منذورة للسلطية، وكأن السلطية منذورون للسلط شكلا ومضمونا.

لتكوني هنا- الآن في السلط تزوّدين عقلك بشريان قلب فتقودك روحك إلى الحقيقة. هنا، في السلط، تؤمنين بوحدة الوجود! 

تسمعين وقع خطوات تحسبينها خطواتك، يستمهلك الصوت فتدركين أنها رفرفات أرواح خطوات عتيقة؛ أرواح خطوات الذين ساروا على حجر الشوارع المزي القاسي حتى ألانوا قلبه وهم الذين وجعوا من التلفت فدار القلب دورته.

لماذا بلطوا أرضية السوق بحجارة بيضاء مدورة؟! ليس لأن السلطكانت وحدها المكان المأهول في البلقاء في العام 1812 ! وليس لأنها كانت مركزا تجاريا مهما لتجارة بلاد الشام ! وليس لأنها كانت مركز القائم مقام! وليس لأنها حظيت بمجلس بلدي منذ عام 1887 ! ليس لهذا كله فقط! لماذا إذن؟ ربما لأن الدائرة تمنح حقا متساويا لمن يحيطون بها في النظر وفي المسافة وفي لقاء العين بالعين حيث العيون مغاريف الهرج حين صدور الرجال صناديق مسكّرة! ألهذا كانت الحجارة مدورة؟! وربما أرادوها بيضاء لتتسع لكل ما أرادوا الاحتفاظ به بلونه ورائحته، بعفويته وقصديته، بقسوته ورحمته؛ وحده الأبيض (حقيقة ومجازا) يحتمل بسعة صدر وبلا ضجر كل هذا الصخب! وحده يتقبل صادقا المختلف.

في السوق حركة البيع والشراء على أشدها، فالوقت ضحى، بعد قليل سيمتلئ مطعم راضي العمد بطلاب مدرسة السلط، عيون ذكية وقامات طموحة! أي قَدَر لتل الجادور؟!عين الجادور تروي ظمأ الجسد للماء، وتروي مدرسة السلط المقامة على التل( مدرسة التل آنذاك) ظمأ الروح للحقيقة! لن تخلع نعليك فقط! سوف تخلع كل ما لا يليق؛ فأنت في مكان يتنفس نبوات وأنبياء حيث ذهبت!

لتصل بيت مضيفك عليك أن ترقى كل تلك الدرجات بين الأحياء والبيوت، هذه الأدراج طريقة السلطية لتفهم أن الوصول إليهم، بكل معانيه، صعب! عليك أن تبذل الوقت والجهد لتعرف حق الدخول وحق السلام قبل أن يستقبلك البيت السلطي، فإن وصلت حقا، كنت جديرا برحب باذخ وسعة تثلج صدرك تلقاك بها ال يا هلا، يا هلا ورِحِب ! هذي ال هلا التي تأخذك إلى منازل نزّال الدربين الذي يشرع بيت الشعر الذي يسكنه أيام الحصيدة من جهتيه ترحابا بالضيوف! 

أنت تقفين الآن على درجة أعلى! أي قَدَر يتوحد فيه اللزّاب والسلط والسلطية؟! لزّاب- صيغة مبالغة تصف ما هو قوي متين مشتد في ذاته وملتصق متراص مع ما حوله! اللزّاب- الاسم الذي يطلق على أحراش الصنوبر في السلط! السلط- بيوت قوية متينة من حجر أصفر متراصة فوق بعضها البعض متلاصقة كتراص الأكتاف وتلاصقها في صلاة جامعة! السلطية! الدرجة الآن أعلى وأعلى... هنا تأخذين نفسا أعمق ومرة أخرى تزودين عقلك بشريان قلب لتقودك روحك إلى الحقيقة؛ حقيقة رجال يعرفون النقص والزود ويقيسون قامات الرجال بالكرامة، وحقيقة نساء تستعيدين ملامحهن من عيني عرار: 
بالسلط غزلان، كما قيل لي، 
هضيمة الكشح حَصَان الخِبا
المجد والوجد بقاماتها 
عن غاية اللطف، لقد أعربا 

ها هم! بعد العصر بقليل يتهيأون، هذا المساء يكدون جاهة لطلب عروس لزين الشباب! زين الشباب رجع سالما غانما بعد أن أصابته في بطنه صلية رشاش الانتداب البريطاني وهو يقاتل مع الثوار في فلسطين، رأى أحشاءه تخرج من الجرح، أعادها إلى جوفه وشد على الجرح كوفيته، وألهى الألم بالقصيد إلى أن وصل إلى المستشفى. منذ عاد زين الشباب سالما غانما وهو حلم الغزلان حَصَان الخِبا! ستحظى به غزالة تمنحه ثمانية شباب وخمس صبايا، وصلاة الزين تحميهم من العين! 
السلطية! ها هم يتهيأون! عباتي، عباتي، يا خي فواز عباتي لالبسك واتغوّى واكيد العدوات 

لم يتأخر الرجل المهابة التي تمشي على قدمين، كل ما في الأمر أنه كان لا بد أن يغرف الطعام ويرسله لجيرانه من تلاميذ مدرسة السلط الوافدين من القرى المجاورة قبل أن يتناول غداءه، كعادته كل يوم! كان اليوم غاضبا لأن أحد أولاده أغلق باب الدار! يريده كل وقت مشرعا للضيف والمستجير! 

ها هم السلطية يتهيأون! بينهم الطاهر قلبا ولسانا ويدا، ذاك الذي يقبل القاضي شهادته دون أن يقسم لأن سيرته في الناس وعند رب الناس هي قسمه! وبينهم الأنوف الأبي ذو الهمة الذي يحمل في علبة الهيشي رصاصة يخرجها ويردد لمن يطلبون منه أن يرتاح من التعب ويكتفي بأولاده: هذه الرصاصة ستستقر هنا (مشيرا إلى رأسه) إذا ما أصبحت يوما عالة على أحد! وبينهم قامة استفزت جورج أبو عطا فقال على لسان حال صاحبها: 
عيشة بالطفر ولا تلحيس الصحون 
عمار.. عمار يا ديار أهلنا! 

أنت تدركين الآن بوضوح لماذا كل هذه الأدراج! ليست الطبيعة الجبلية ومقتضيات البناء فقط، إنها عبقرية المضيف الذي يمنحك فرصة أن تعرف وتفهم فتقدم أوتتراجع إن لم تكن أهلا لملاقاة أهلها عن معرفة حقيقية! 

درجة أعلى... هي فرصتك لتتأملي الحداء الذي يرافق الجاهة: 
يا بنت طلي واشرفي طلي وشوفي افعالنا وحنا مثل عشب العراق نلحق على طول المدى غزوا البيارق ع الجبل وتبشري يا بلادنا حنا السلطية مصيتين ذبح العساكر كارنا 

من تلك التي يريدونها أن تطل وتشوف أفعالهم؟ هي أخت أحد وجهاء العشائر المجاورة لهم، سجنته الحكومة التركية في سجن السلط، فرّ من السجن فطارده رجال الدرك الأتراك، أرسل إلى أهل السلط مستنجدا، ولما فزعوا له وجدوا الدرك قد قبض عليه، الفزعة قتلوا رجال الدرك وأنقذوه، وكان هذا حداؤهم لكي تعلم بما فعلوا، وحق لهم! 
درجة أعلى الوقت مساء،بعد صلاة العشاء بقليل تغلق البوابة.

روح عادل الأدهم تضيء الشوارع باللوكسات القديمة والقناديل. في شارع الحمام كانت الأصوات تتنادى مذكرة بالصابية التي ستقام غدا في الميدان،وصوت يهدل من وراء شباك ذي أقواس مدببة في الطابق العلوي: ريت السابقة من خيل أهلنا ، تلك غزالة من غزلان السلط وقعت أمنيتها على قلب خيّال سينشد منتشيا: 
يا يمه شدي مهيرتي تسلم وانا خيالها لاشري لها سرج جديد ريش النعام قذيلها 

درجة أعلى... يدك على قلبك، نعم! بناها البلقاء بن سورية من بني عمان بن لوط! يدك على قلبك! كم خفقة أضرم القلب في عقلك الآن؟ 
وأعلى.. وأعلى.. وأعلى 
حين أنت في البلقاء فأنت في موقع القلب بين جناحين: ميمنة وميسرة! حلقي! أعلى، طيري ولا تهدي! سبحانه بارىء الأردن! 
حين أنت في البلقاء فأنت دقة القلب بين جبال عجلون شمالا وجبال مؤاب جنوبا!

عالية الشوبكي
جريدة الرأي
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))