اللحظة العثمانية واللحظة الأردنية

كان القرن العشرون ممزقا للتفاؤل بقدرة العلوم والفنون على جعل العالم أكثر فهما للذات، هذا ما يراه ديفد هارفي في كتابه "حالة ما بعد الحداثة"، وهو كذلك قرن تراجع فيه التقدم الاخلاقي والعدالة في المؤسسات، بل والسعادة لبني البشر، على مستوى التجرية الانسانية، على الرغم من التقدم التقني، فهو قرن الحروب الكبرى وقرن الايديولوجيات التي انكفأت في نهايته وقرن السقوط الكبير للنمذجة الفكرية.

عربيا، كان قرن السؤال السياسي عن الإصلاح، ومن ثم الهوية العربية، واعقبها التحرر ثم النضال من اجل الاستقلال، ثم الاستقلال، ومن ثم الثورات التي قادها ابناء الريف إلى المدن ثم اكتفوا بالخيار الواحد حتى اليوم.

نحت الفكرة العربية عموما نحو الإصلاح قبل قرن أي منذ 1907، وقبل ذلك، وما تزال تنوء بلائحة طويلة من المشكلات والتحديات، وكان أبرزها، مشكلة نمذجة استبداد الحكم، والرفض الذي تصاعد ضده، فكما أنه احتوى على الكثير من التناقضات المثيرة للقلق الذي ظل حاضرا باستمرار، فإنه أيضا جاء في احيان كثيرة بتصورات مسبقة حول الاستنارة وسببها.

حتى اليوم، بدت العلاقة بين الحاكم والمحكومين بأنها لم تكن هي المطلب الأول للنهضة، بل كانت هناك إصلاحات أخرى أولية منها، ما هو ديني وتربوي وتعليمي. في هذا المنعطف يرغب البعض في إثارة السؤال ماذا كان حالنا أردنيا؟ هل كنا مجردين أو رعاة، او رعايا دولة متهالكة، وهي الدولة العثمانية، وهل كنا بعيدين عن المدنية التي أفقنا على بنائها وتشييدها في بداية الثلاثينيات مع دور كبير للوافدين الجدد، ثم هل افترق السوري واللبناني عنا كثيرا أم لا؟

الجواب بسهولة: كنا جميعا عثمانييّ التابعية بداية القرن العشرين، وكما كانت المدن والحواضر تشهد جدلا فكريا ضد الاستبداد الحميدي، كان لدينا ثورات ورفض في الشوبك والكرك ومعان قبل امكنة اخرى مجاورة! وكانت ثمة حواضر ونواة حواضر في السلط والكرك وعجلون وغيرها، وكان هناك طلبة يتعلمون في دمشق وبيروت، وثمة تجارة رائجة بين القدس ونابلس والسلط والكرك والخليل واربد وحيفا ...الخ.

كان هناك بعض الذين عايشوا التجربة الدستورية وساهموا في تجربة الحكم الدستوري العثماني، أولئك الممارسون كانوا من جيل الاستنارة التقليدي اردنيا، هم أبناء او شيوخ او اعيان العشائر، ومنهم نجيب الشريدة وتوفيق المجالي وعودة القسوس وغيرهم من الذين انتخبوا اعضاء في مجلس المبعوثان العثماني عام 1908 بعد الثورة الدستورية في اسطنبول.

آنذاك، كان لكل ولاية عثمانية مجلس منتخب، والأهالي ممثلون في مجالس الإدارة، وبعد انهيار الحكم العثماني عام 1916، أصبح الأردن جزءاً من الحكومة العربية الفيصلية في دمشق، التي قامت بإلغاء التقسيمات الإدارية العثمانية، وقسمت سورية إلى ثمانية ألوية شملت ثلاثة منها أراضي شرق الأردن وهي: لواء الكرك ومركزه الكرك ويضم أقضية الطفيلة ومعان والعقبة والشوبك وتبوك وذيبان. ولواء البلقاء ومركزه السلط، ويضم زيزياء وعمان ومأدبا. ولواء حوران ومركزه بلدة درعا ويضم أذرع وجرش واربد وعجلون وبصرى. وعندما انعقد المؤتمر السوري العام في شهر آذار 1920 أرسلت المناطق الأردنية ممثليها إلى دمشق، وفي هذا المؤتمر عين الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سورية الطبيعية.

في تلك الحقبة بدأت تتشكل معالم الهوية السياسية الاردنية التي نضجت وانضجتها فيما بعد تجربة الإمارة والتأسيس، وقد أسهم تنوع النخبة السياسية في تلك الحقبة في رفد المنطقة بخبرات عربية مجربة، وكان لجيل الاستقلاليين العرب دور بارز. مع تسجيل الأراضي وتشكيل مؤسسة الجيش بدا هناك نوع من إعادة الصياغة للعلاقة بين الفرد والنظام الجديد وهذه الخطوة ستترك آثارها، فيما بعد، لعقود نجح فيها الاردنيون باجتياز الكثير من التحديات ونجحت الدولة في بناء ثقافتها المؤسسية.

في عام 1923 انشئ أول مجمع علمي في شرق الأردن. أسهمت خطوات التأسيس في تشييد دولة التعددية والتنوع والإثراء، دون توتر يذكر برغم تصاعد مطالب حزبيين وسياسيين بضرورة اشراك ابناء البلاد في المناصب العامة، ثم كانت الاحزاب ونشط الطلبة المتمردون في المدن ضد الانتداب ووعد بلفور وكان على هؤلاء الطلبة فيما بعد عبء كبير كونهم اضحوا من اصحاب الافكار السياسية التي صنفتهم على انهم يساريون في مقابل تيار آخر هو تيار الوطنيين، وهو للأسف تقسيم ما تزال تدرسه مناهج التربية الوطنية في وزارة التربية والتعليم.

إلا أن خطوة اصدار القانون الأساسي عام 1928 كانت حدا فاصلا في الانتقال بين الزمن العثماني رآه البعض مظلما - بالحكم على العقدين الأخيرين منه- وبين عصر جديد للإنسان الأردني لينتقل فيه المجتمع إلى لحظة حداثية مختلفة تماما عن اللحظة العثمانية. 

د. مهند مبيضين
نقلا عن جريدة الغد
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))