علي البشير .. وزير داخلية قومي يستعيد زمن السلط الجميل



يروي زمن السلط الجميل، آنذاك أواسط الأربعينيات، حين كانت المدينة موارة بالأحداث السياسية، والطلبة في مدرستها منقسمون بين أفكار وأيديولوجيات كبرى، ومطعم العمد ومقهى المغربي ملتقيان للطلبة والساسة ووجهاء البلقاء والقادمين من مدن أخرى.

لا حوادث شخصية كثيرة يرويها عن ذاته، والتذكر قائم عنده على الذاكرة الجمعية، لكن الرجل الذي لا يكاد يتذكر في أي سنة تزوج أو صار وزيرا أو محافظا، يتذكر بدقة متى قاد مظاهرة ضد الانتداب البريطاني في الأردن.

كأنه يحمد الله لأنه لم يدخل الوزارة إلا مع الراحل عبدالحميد شرف "ما قربت مع غيره جينا معه رحمة الله عليه على مبادئ وحدة وتضامن الأمة..".

في قرية زي، قرب السلط، ولد علي عبد الرحمن البشير الحمدان العواملة، في العام 1930، كان والده ملاّكا وله أراض زراعية في زي وأم العمد (في السلط)، ويومها خلت القرية من شيوخ الدين الذين كانوا يدرسون أبناء القرى، فدرس للصف الرابع في مدرسة الروم الأرثوذكس الكائنة في حارة الخضر "بجانب بيت جدي البشير"، وكان أستاذه في المدرسة "المعلم طعمه وهو من الفحيص".

بعد مدرسة الدير انتقل لمدرسة السلط الثانوية في أوائل الأربعينيات، التي كانت تقبل طلبة من مختلف مناطق الأردن، وكانت تشهد حراكا وطنيا، وفيها درس على نخبة من المعلمين ومنهم حسني فريز وحمد الفرحان وخليل السالم وخليل الساكت.

من زملائه في السلط حكمت الساكت وهاشم الدباس وعبد اللطيف عربيات وأحمد مسمار " ومن ثمّ صار مدير المدرسة حسني فريز، ثم علي سيدو الكردي".

عَيْشُ الأسرة في المدينة وفر عليه ضرورة المصروف "كان المصروف قليلا، فنحن نعيش على نتاج الكروم من الزبيب والخبيصة والتين، ولم يكن هناك ترف، لكن كنا مبسوطين، ولم نشعر أننا في كفاف، بل كان لدينا قناعة كبيرة".

حياة السلط برأيه "كانت رائعة وبسيطة والناس محبون لبعض" وكان مطعم العمد مشهورا بالمشاوي، وفيها مقهى المغربي الذي كان مكانا "لجلوس كبار الرجال، ومتنفسا للناس، لكن كانت السلط محافظة على هويتها".

يتذكر أيضا سيادة القانون العشائري في المدينة، ومن وجهاء المدينة ممن عملوا به الشيخ "حمدان العواملة، الذي كان من القضاة المعدودين".

في ذاكرته أحداث سياسية عامة، ومنها نكبة العام 1948 "المظاهرات كانت عنوانا للسلط، وكان جورج حبش جارنا، وفي يوم طلعنا مظاهرة والتقينا الملك عبدالله، وكنت المتحدث وقلت له يا سيدي هناك هدنة أولى وثانية، فرد علي: يا وليدي اليوم هدنة وباكر حرب وولدي نايف وطلال أولكم في المعركة..".

عادت المظاهرة وتكررت في السلط، وخرج طلاب المدارس، وتم التحقيق مع قسم منهم على غيابهم عن المدرسة "وثاني يوم وأنا بدار جدي جاء شخص، وقال أنت قدت المظاهرة للديوان الملكي، فقلت نعم، وأنا طالب مدرسة، وقال اسمع يا علي خذ هذا المنشور، وستبقى تتذكره طوال حياتك، أخذته وأعطيت نسخا منه للمرحومين الملك حسين وعبدالناصر وحافظ الأسد وياسر عرفات، ونص المنشور يحذر من مؤامرة إسرائيل على المنطقة وأطماعها في البلاد العربية المجاورة لها".

مدرسة السلط كانت مؤثرة في حياة المدينة، والطلبة كانوا على علاقات وطيدة فيما بينهم "كان في ذلك الوقت الصف التاسع يعمل حفلة للصف العاشر، والعاشر يعمل حفلة للتاسع، وكانت الأحداث السياسية تشغل الطلبة أكثر من الدراسة".

الطلبة المسيّسون وجدوا في الأحزاب مجالا رحبا للتعبير عن أفكارهم "كان هناك عدة تنظيمات حزبية، منها الإخوان المسلمون، وحزب التحرير والشيوعيون، وحزب لسليمان النابلسي (يقصد الحزب الوطني الاشتراكي)".

حزبيا، انتظم علي البشير في البعث، "مع أن الواحد كان يتلقى تحذيرات من الأهل، إلا أننا انتسبنا للأحزاب". والأحزاب برأيه كانت لا تخلو من أجنحة "يقال عنها رسميا أنها متطرفة".

انتسب أبو فواز لحزب البعث، وهو في الصف التوجيهي، "أخوي د.محمد كان قياديا مع عبدالله الريماوي وعبدالله نعواس، وميولي كانت عربية قديما، ولست بالفعل متعصبا، لكن أنا مع الحفاظ على التاريخ والبصمات العروبية، ويكفينا فخراً أننا أمة عربية".

بعد أن أنهى الثانوية العامة 1950، سافر لدمشق لدراسة القانون في جامعة دمشق، ومن ثم درس الماجستير في القانون باشراف الدكتور رشيد الدقر. وفي جامعة دمشق درّسه كبار أساتذة القانون والشريعة ومنهم "د. مصطفى الزرقاء ومصطفى السباعي".

الشام كانت مثقلة بالتنظيمات السياسية "وسورية من سماها قلب العروبة أنصفها، كنا نحس بالبعد العروبي.. وكان معنا من الأردن أخوي محمد، وقاسم الناصر، وأحمد خريس، ورفائيل زيادين، وابراهيم الحباشنة وجودت المحيسن".

في دمشق، عاش حياة يصفها بالسرور "اعتبرت دمشق الأم، وكنت اعتبر سورية الطبيعية وطنا، وكانت الحياة أكثر يسرا ولم تكن الهويات الفرعية حاضرة في وعي الناس".

سكن بالشام في عدة أحياء، منها القصاع وباب توما والصالحية، وكان يأتي لعمان في الصيف. ولما عاد العام 1954 عيّن قاضيا ومن ثم أعير للعمل في الكويت ست سنوات، وبعد أن عاد عيّن رئيسا لمحكمة الاستئناف، ومن ثم مساعدا لرئيس النيابات العامة "ثم طلبني وصفي التل وابراهيم الحباشنة وقالوا نريدك محافظا، وقال إبراهيم الحباشنة أريدك محافظا للكرك، فخدمت عامين في السبعينيات وكان مدير مكتبي حماد المعايطة، وأنا احترمه ووالده علي بن سلامه من أعز أصدقائي".

بعد الكرك، نُقل محافظا لإربد "أذكر الملك حسين زار الكرك، وكان هناك ضيف بالكرك، وهو الأمير فهد بن عبد العزيز، وكان السعوديون يزورون معان والكرك باستمرار، وقال الملك حسين أريدك محافظا لإربد، وأذكر أن دميثان المجالي قال يا جلالة الملك هذا علي البشير منا وبدنا إياه بالكرك، ولا تأخذه، لكن أمر النقل نفذ".

بعدها أصبح محافظا للعاصمة، ثم عضوا في المجلس الوطني الاستشاري، ثم وزيرا للداخلية في حكومة عبدالحميد شرف التي استمرت بين (19/12/1979- 30/7/1980 ).

يرى أنه لم يكن ممكنا أن يَحِلّ في أي حكومة غير حكومة عبدالحميد شرف "لم آتِ مع غيره، لأنني جئت معه على مبدأ التضامن العربي، وهو كان يؤمن بذلك الفكر الوحدوي..".

في خدمته الطويلة في عدة مواقع يرى أن أجمل أيامه بالخدمة "وأنا قاض ووزير في حكومة عبدالحميد شرف، وكنت مسرورا لسعينا لهدف سامٍ، وكان معنا بالحكومة وحدويون أمثال قاسم الريماوي. وعلي السحيمات ومعن أبو نوار وسالم مساعدة وغيرهم..".

أما كيف تم اختياره للداخلية فيجيب "طلب إليّ أن أكون وزيرا للداخلية جلالة الملك حسين وسيادة الشريف عبد الحميد شرف."

بقي البشير على صلة بحزب البعث حتى انقلاب شباط (فبراير) 1961 في سورية، الذي أنهى الوحدة بين مصر وسورية "البعثيون بعضهم ساهم في انفصال دولة الوحدة، وأنا تركت التنظيم، لكن الفكر الوحدوي ما زال في داخلي..".

يذكر البشير أحداث أيلول في الأردن "كانت صعبة كان هناك توجه للحفاظ على أمن البلد، والفصائل كانت تطرح شعارات صعبة، وكادت أن تمزق عمان، وأنا مؤمن بأن العودة لفلسطين لا تتم إلا بوحدة عربية".

حين يستذكر الثورة الفلسطينية يلفت النظر إلى إسهام الأردنيين بها "شاركنا بالنضال، ولم يكن الأردنيون إلا على الوجع، وشركاء مع إخوتهم، وكانوا قياديين ومبادرين في النضال".

أول راتب تقاضاه كان في القضاء "ولا يصل إلى ثلاثين دينارا، وكان معنا في القضاء خليف السحيمات وناجي الطراونة"، وحين يعود إلى تلك المرحلة يتذكر احترام الملك الحسين للقضاء وحفاظه على استقلاله.

مكث البشير وزيرا للداخلية نحو عامين. يدافع عن عمله بالوزارة "مرة زارني الرئيس ورحنا على السجن ودرسنا أحوال المساجين ونسب بالعفو عنهم، وهكذا كنا نريد أن نفتح المجال للحريات".

ومن ذاكرة القضاء عنده "كنت بمحكمة العدل العليا، وكان الملك حسين يحترم القضاء كانت المحكمة تصدر أحكاما وتلغي قرارات مجلس الوزراء، ومن قراراتها نقل د.أحمد النابلسي من وكيل وزارة إلى طبيب ميدان، ومن ثم رفع قضية بالمحكمة وكسبها، وكان محاموه شوكت الخصاونة وعبد الرحمن السكسك وفؤاد عبد الهادي".

يتذكر البشير في طفولته حراك السلط الوطني "وجهاؤها الكبار كانوا في زمن عدم وجود مجلس نواب يشاورهم الأمير عبدالله، ويجتمع بهم ويعطون رأيهم وبخاصة في أمر المعاهدة البريطانية التي وقعت العام 1928 وكانوا جلهم ضد المعاهدة، وأذكر أنهم كانوا باجتماع ومعهم حسين الطراونة ورفيفان المجالي وأثير الأمر، فكان محمد الحسين العواملة وحسين الطراونة رافضين للمعاهدة، ووقتها على ما سمعت أنهم رفضوا التوقيع".

تزوج البشير في الخمسينيات من القرن العشرين "لا أذكر التاريخ" من السيدة سعاد النجداوي "كان والدها لاجئا سياسيا بسورية"، وأنجبا خمسة أبناء: المهندس فواز، والدكتور عمر، والدكتور سعد، وسهاد، وانتصار "البنتان تخرجتا من الجامعة الأردنية".

د. مهند مبيضين
جريدة الغد
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))