مدرسة السلط الثانوية .. ذكريات أصدقاء الدراسة

كلما دخلت بوابات السلط العتيقة ، يواجهني باسماً وجه الثانوية الصبوح ، فأرد عليها السلام وتحية الصباح من بعيد. أراها بعيني العاشق وكأنها أميرة أسطورية جالسة على أريكة من العاج يجللها الحرير الغالي وتزين جيدها أطواق من اللؤلؤ والزمرد والمرجان.

مدرسة السلط الثانوية جامعة الأردنيين في الزمان الجميل ، زمان البدايات وهي أم المدارس عندما بدأ الأردنيون يكتبون الحروف الأبجدية الأولى ويبنون وطناً جميلاً ولا كل الأوطان ، أرسى الجد المؤسس الأمير (الملك) عبدالله الأول بن الحسين طيب الله ثراه حجر الأساس في عام 1923 وانطلق السلطيون والأردنيون بهمة الشجعان ، وحتى السجناء ، يعلون بنيانها جوهرة ثمينة تزين "التل" المطل على مدارس السلط وعلى الطريق المؤدي إلى فلسطين.

وفي كل صباح عند المساء عندما أشاهد وجهها البسام ، أقرأ فيه صفحات خالدة من كتاب الوطن ، وتأسرني الذكريات فأرجع إليها واستحضرها لأطالع ما كان بيننا من قصص وحكايا ، وأردد "ألا ليت الشباب يعود يوماً..". أقول هذا الكلام ، عندما وقعت عيناي على كتاب أصدرته ادارة المدرسة عن مدرسة السلط الثانوية في عيدها الخمسين عام ,1976شعرت بالفرح الطفولي وأنا أقرأ أسماء زملائي وأصدقائي في قائمة الخريجين لعام 1957 ـ ,1958 كان عددهم (76) طالباً ، تبدأ باسم الصديق أحمد ابراهيم العبداللات وتنتهي باسم الصديق محمد عبدالله الحياري وكان رقمي (48). قرأت قائمة الأسماء أكثر من مرَّة حتى تمكنت من استرجاع صورة كل واحد منهم إلى درجة أنني تذكرت سلوكه والنوادر والطرائف والألقاب التي كنا نمنحها لهؤلاء المتفردين في شخصياتهم. كان بعضهم قريباً "مني أو منا" وبعضهم بيني وبينه مسافة مثل خط أخضر ولا أقول أحمر.

ترددت كثيراً في ذكر بعض الأسماء ، فهذا المقال لا يسمح بورود قائمة خاصة بهم ولكنني ، بالرغم مما أملك من الحب والاحترام لهم جميعاً ، أخذت بعض الأسماء لزملاء كانت لي معهم تجارب شخصية وبعضهم ما زلت أرتبط به ارتباطاً لم يستطع الزمان وأحداثه الصعبة أن تفرق بيننا. ويأتي أولاً ، الأخ والصديق الغالي هاشم القضاة (أبو مصعب) الذي تزاملت معه وصادقته من الصف الثالث وسيظل حتى نهاية العمر. وأبو مصعب شخصية هادئة ، وما زال يحمل سجايا الإنسان الرقيق الصادق المثقف المبدع ، وخلقه رفيع. في شبابنا كنا ننتمي إلى مدرسة فكرية واحدة. نحن العشاق للسياسة والقوميين الوطنيين ، أردنيو الانتماء هاشميو الولاء.ولهاشم تأثير كبير عليّ ، وما زال مرجعاً أمينا لي في ثقافته الموسوعية وحبه وحكمه على الأمور.

أعرف عن هاشم صبره وتسامحه ووفاءه للجميع. وأذكر وجوه بعض الذين رحلوا شوقي قاقيش وعبدالحليم الضرغام وفاضل صالح القر وعلي الحبيس وفاروق العقاد رحمهم الله جميعاً. ومنهم من لم ألتقه منذ ذلك الزمان البعيد بعدما تفرقنا وراح كل في "طريق".وكنا نطلق "كنية" على الكثيرون من زملائنا مستمدة من سلوكه أو مهنة والده ، وهي لا تسلم من العبثية والنكاية ، وتصبح "الكنية أو اللقب" الدارجة بيننا أكثر من الأسماء. فهذا نطلق عليه "النغش" أي المدله وهذا نطلق عليه "القدوم" لأن والده كان نجاراً وهذا "داندى" لطريقة مشيته مثل بطل قصة مقررة في الأدب الإنجليزي وهذا "الفيلسوف" لإصراره الدائم على طرح نظرية خاصة مفادها أن الأرض منبسطة وليست كروية وآخر نطلق عليه "أبو الطرفان" لأن والده كان جزاراً.

ولقد عوقبنا من صديقنا هذا ، فقد حرمنا من الوجبات اللذيذة والدسمة من "اللحم والطرفان" عندما علم بأننا أطلقنا عليه هذا اللقب. ولقد ندمنا على فعلتنا لأننا خسرنا شيئاً لم نكن نحلم به في بيوتنا. ولا أود أن أصف كم كان هذا الزميل كريماً ومحباً لنا وبخاصة والديه وأخوانه وأعتقد أن عقوبتنا كانت عادلة وكافية بمقدار الذنب الذي ارتكبناه والبادئ أظلم.ومع كل هذا ، فإنني أود أن يعلم جيل اليوم بأننا كنا صبورين ومجتهدين وكانت الحياة قاسية وصعبة على الجميع.

لقد كان الطلبة يتنافسون على أمور كثيره ، أولها التعبئة الثقافية فقد كنا نتفاخر بقراءة الكتب وبخاصة مؤلفات طه حسين والمنفلوطي وجان بول سارتر وفرانسوا ساغان ودواوين شعر المتنبي والفيتوري والبياتي وكنا نكتب الشعر والقصة ونجيد الخطابة ورسائل الحب العذري.أما الأمر الثاني فهو الاهتمام السياسي ، حيث توزعنا بين الاتجاهات الإسلامية والقومية واليسارية وكثيراً ما كانت تقع المشاجرات بين الطلبة ولكن ليس على أساس عشائري ، كما هو اليوم ، وإنما على أساس حزبي. والأمر الثالث هو التنافس في الدراسه وبخاصة بين الطلبة المتفوقين. وأود أن أسجل هنا بأنه ليس جميع الأوائل ، حصلوا على مناصب عليا في الدولة ولكن قد يكون البعض منهم قد جمع ثروة ونجح في حياته الخاصة.

كان جيلنا ، جيلاً جادا إلى حد القسوه لصعوبة الحياة وللتربية "الاسبارطية" التي كنا نعاني منها ، وهي في تصوري تربية نموذجية على الأقل بالنسبة لنا. أطال الله أعمار الأحياء من الأصدقاء ومتعهم بموفور الصحة والعافية وأسلم على الذين مرَّوا على هذا المقال ، وأدعو الله أن يديم ازدهار مدرستنا الغالية حتى تظل مصنعاً للشباب وللرجال.

د. سليمان عربيات
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))