محمد البشير.. شهيد الواجب ونصير صحة الفقراء



قدم الطبيب والسياسي محمد البشير منجزه العلمي والإداري والسياسي، مرتكزاً على بيئة عائلية خصبة، نابتاً في مدينة عرفت بكونها بيت العلم منذ بواكير نشأة الدولة، وهو يدين بالفضل الكبير لما حققه لوطنه وأبنائه، إلى والده عبد الرحمن البشير العواملة، الذي يعد أحد وجهاء السلط المتمتعين بالمكانة الاجتماعية المرموقة، فلقد كان من أبرز شيوخ العواملة، عرف بمقدرته اللافتة في القيام على حوائج الناس، وحل مشاكلهم ومساعدة المحتاجين والضعفاء منهم، فسعى إليه الناس من داخل السلط ومحيطها، ولم يذكر عنه أنه رد صاحب حاجة خائباً، ويعد من كبار المزارعين في السلط، وقد كان له دور في دعم المزارعين وحماية مصالحهم، حيث تميز بانحيازه للبسطاء وأصحاب الحق، وكانت له كلمته عند رجال الدولة في السلط وعمان، مما كرس دوره في الحياة العامة في البلقاء.

عمد الشيخ عبد الرحمن العواملة، إلى العناية الخاصة بتربية أبنائه، معتبراً أن الشباب الواعي المسلح بالمعرفة، هو سبيل الوطن للتنمية والتقدم، لذا لم يدخر جهداً في سبيل إكساب ابنه محمد البشير أسباب التميز، وأن يتمتع بالخلق الرفيع، والتواضع وحب الناس، وتقدير العلم والانتماء للوطن والقيادة.

ولد محمد البشير في مدينة السلط عام 1925م، وكان الأردن الحديث يخطو خطواته الأولى، نحو مستقبل جعل من هذا البلد محط إعجاب القاصي والداني، وقد ترعرع في كنف والده، وراقب خدمته لأهل المدينة وتعلقه بوطنه، فنشأ قريباً من الناس، بسيطاً خيراً، تعلم من والده أن التواضع رافعة أساسية للرجل الناجح، ورغم ما قاسته البلاد في تلك الفترة من ظروف صعبة، فقد أصر والده على حثه لتلقي العلم بعمر مبكر، فالتحق بالكتّاب ليتحصل المبادئ الأساسية في القراءة والكتابة والحساب، وحفظ أجزاء من القرآن الكريم، بعد مرحلة الكتّاب انتقل البشير إلى المدرسة الابتدائية في مدينة السلط، وقد لاحظ معلموه نبوغه المبكر بشكل لافت، وقدرته المدهشة على الحفظ والاستيعاب، فكان متقدماً على اقرانه في هذه الناحية، هو ما جعله محط الاهتمام والتقدير في مدرسته وخارجها.

التحق محمد البشير بمدرسة السلط الثانوية، وواصل تميزه الدراسي في المرحلة الثانوية، وفي هذه المدرسة الرائدة، التي جمعت خيرة أبناء الأردن من شماله إلى جنوبه، زامل عددا من الطلاب، الذين أصبحوا فيما بعد من رجالات الوطن البارزين، من أمثال غازي القماز، محمد نزال العرموطي، حمدي الساكت، شوكت تفاحة وسامي حمارنة، وغيرهم ( العناقرة، رجلات من الأردن).

وقد تمكن البشير من الحصول على شهادة الثانوية العامة بتميز عام 1943م، ولم يتأخر كثيراً عن خدمة وطنه، فدخل الحياة العملية بعد الثانوية العامة مباشرة، حيث عين في وزارة الداخلية، بوظيفة كاتب رسائل في محافظة الكرك، ورغم تميزه في عمله، إلا أن حبه للعلم وتحصيل المعرفة، التي زرعت في داخله منذ الصغر، فقد استقال من وظيفته الواعدة، وذهب صوب دمشق، من أجل إكمال دراسته الجامعية، فالتحق بكلية الطب في جامعة دمشق، وقد نال درجة البكالوريوس في الطب عام 1952م.

عاد إلى الأردن ليعين طبيباً في وزارة الصحة، وكانت السلط مقر عمله الجديد، وبعد تميزه كطبيب تم تعيينه مديراً لمديرية الصحة في السلط، مما مكنه من العمل على تطوير الخدمات الصحية في مدينة السلط، وبعد خدمته الناجحة في وزارة الصحة الأردنية، وتلمس حاجات هذا القطاع الحيوي من قرب، لذا قرر إكمال دراساته العليا في مجال الطب الشرعي، فسافر إلى مصر، ملتحقاً بجامعة عين شمس، حيث تخصص في الطب الشرعي والسموم، عاد بعدها إلى وطنه ليكون من أوائل من تخصص بهذا المجال، حتى عده كثيرون من أبرز من بذلوا جهوداً مخلصة لتأسيس الطب الشرعي في الأردن، وقد لمع أسم الدكتور محمد البشير، وصار له حضور قوي على الساحة العلمية والسياسية، وهو من كانت له نشاطات سياسية قومية، منذ تعرف على قادة هذه الحركة خلال دراسته في جامعة دمشق، وقد عمق ذلك كله انتماءه لوطنه وقيادته، وقد كان يوم 28/10/1970م، حاسماً في تغيير مسيرته الحياتية، ففي ذلك اليوم أعلن رئيس الوزراء وصفي التل، عن تشكيلة حكومته الخامسة والأخيرة، التي ضمته وزيراً لشؤون رئاسة الوزراء.

التل أجرى تعديلاً على حكومته بعد ذلك بأشهر، أصبح على أثرها البشير وزيراً للصحة، وكان ذلك في 22/5/1971م، وتميز عمله في الوزارة بالجدية، والعمل المخلص لتطوير هذا القطاع المهم، وعندما شكل أحمد اللوزي حكومته الأولى احتفظ البشير بمنصبه كوزير للصحة، ونظراً لنجاحه في النهوض بأعباء عمله الكثيرة بتميز، فقد حظي بثقة كبيرة، وبمحبة الناس فكان نصيراً للفقراء والمحتاجين، يدفع من جيبه عن من يعجز عن سداد تكاليف علاجه، وقد دعم الجمعيات الخيرية، ودار المسنين، مما جعله قريباً من المهمشين والضعفاء، وقد كلف اللوزي بتشكل حكومته الثانية عام 1972م، فدخلها البشير وزيراً للمواصلات، وعندما تم تشكل الإتحاد الوطني عام 1972م، انتخب عضواً في اللجنة التنفيذية العليا، في الاتحاد الوطني. وقد شغل منصب مديراً لمستشفى عمان الكبير عام 1974م، الذي حمل اسم مستشفى الجامعة الأردنية في ما بعد، وعمل ما في وسعه لتطوير هذه المستشفى، حتى غدت من أهم صروح العاصمة الطبية.

في عام 1976م عاد البشير إلى الحكومة من جديد، ليصبح وزيراً للصحة في حكومة مضر بدران، وكان كعادته متفانياً في عمله، لا يتوانى عن الاضطلاع بواجبه، دائم النشاط يزور مدن وبلدات المملكة لتفقد واقع الخدمات الصحية، بشكل فردي أو برفقة بعض المسؤولين، وقد اتسمت خدمته في المناصب المختلفة بنظرته التطويرية، وتطبيقه منهجية واضحة، بعيدة عن المحاباة والمصالح الخاصة، ، فقد كان له دور واضح في تأسيس كلية الطب في الجامعة الأردنية، إدراكاً منه لدورها المستقبلي في رفد الأردن بالكوادر الطبية المؤهلة.

على الصعيد الاجتماعي ارتبط محمد البشير بالسيدة هيفاء ملحيس، الناشطة في مجال الشؤون الاجتماعية والخيرية، وأدب الطفل، وقد أسهمت مع زوجها في غرس حب العلم وتقدير المؤسسات العلمية في نفوس الأبناء، حيث ظهر مردود هذه التربية الواعية بشكل جلي، فلقد بين البشير خلال وصية كان قد خطها قبل وفاته المفاجئة، أنه يعد أبناءه لخدمة الوطن والمساهمة في الأعباء الجسام الملقاة على كاهل قيادة وشعبه.

سلك الأبناء طريق والدهم العلمية والسياسية، حيث تخصص الدكتور مازن في طب الأسرة من جامعة ليفربول، في حين تخصص الدكتور عوني في الجراحة العامة، وقد أصبح وزيراً للتنمية الاجتماعية، ونائباً في البرلمان، بالإضافة إلى اهتماماته الاقتصادية، أما الدكتور عبد الرحمن فهو اختصاصي نسائية وتوليد وأطفال الأنابيب والأجنة، وقد اتجه الدكتور بلال إلى دراسة الهندسة البيئية، ويشغل منصب مفوض شؤون الاستثمار في مفوضية العقبة، أما وزير الخارجية الأسبق صلاح الدين، فهو حاصل على درجة الدكتوراه في الحقوق من جامعة ماجيل الكندية، وقد درس نائب أمين عمان المهندس عامر الهندسة المعمارية في الجامعة الأردنية.

خسر الوطن الدكتور محمد البشير وهو في ذروة عطائه، فقد استشهد أثناء مرافقته الملكة علياء، عندما سقطت طائرتها قريباً من عمان، بعد أن واجهت عاصفة قوية، في طريق عودتها من جولة تفقدية لمستشفى الطفيلة، حيث استشهدت الملكة علياء ومرافقوها بمن فيهم البشير، في التاسع من شباط عام 1977م، فقد كان يشغل حينها منصب وزير الصحة، وقد شيع جثمانه مع رفاقه الشهداء، ودفنوا في المقابر الملكية، ورغم مرور الأيام فأن الطبيب والسياسي محمد البشير العواملة مازال بيننا بتراثه الطيب، ومن خلال أبنائه الذين ينهضون بواجباتهم بكل صدق وإخلاص، وتقديراً لمكانته أطلق اسمه على مستشفى الأشرفية أكبر المستشفيات في عمان، لتصبح مستشفى البشير.
هزاع البراري
جريدة الرأي

تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))