غازي عربيات .. التميز في أبهى صوره



ارتبط رجالات السلط بمحطات الكرامة والفخر، فقد قدمت هذه المدينة للوطن والأمة قوافل من الأبطال والشهداء، الذين شكلوا مع نشامى الوطن العزيز، قلادة عز ودرعا من حديد ونار ودماء وأرواح، حفظت الأرض والعرض، وجعلت من الأردن قلعة حصينة عصية على الأعداء، وبيتاً مرحباً بالضيوف والأشقاء، وقد كان للسلط مكانتها الخاصة في العقود الأولى من تأسيس حكومة شرق الأردن، فلقد كانت مركزاً علمياً، وبؤرة تجارية ناشطة، ومحطة للحراك الاجتماعي والسياسي الفاعل، ولا شك أن أبناء هذه المدينة القابعة على رؤوس الجبال، لم يتوانوا لحظة عن أداء الواجب، والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الوطن والقيادة، والذود عن العروبة والمقدسات، فبطولات الجيش الأردني في فلسطين وعلى أكثر من جبهة مشهودة، حيث سطروا أروع صور البطولة والفداء.

لقد مثلت مراحل حياة اللواء غازي عربيات، سفراً لا تمحى سطوره،تؤرخ للتميز والشجاعة والإقدام، وهو المولود على رابية من روابي مدينة السلط، في بؤرة الزمن الصعب، فقد جاء إلى الدنيا في الثالث من كانون الأول عام 1928م، وقد خاض سنوات طفولته في حارات السلط وأزقتها، باحثاً عن قصص البطولة المخبأة في حكايات كبار السن، وفي ثنايا الذاكرة الشعبية، مفتشاً عن الدهشة والأشياء المختلفة.

لقد تربى كغيره من أبناء السلط في تلك الأيام التي اتسمت بقسوة الظروف، وتشابه أوضاع الناس المادية والاجتماعية، فعانى في طفولته كأقرانه من قلة الإمكانيات، فاعتاد الاعتماد على النفس، وتمرس منذ صغره في تحمل المتاعب والمشاق، وفي سبيل العلم التحق أولاً بالكتّاب كما هي عادة التلاميذ في تلك المرحلة، وهناك نال معارفه الأولى، التي مكنته من الإنتقال إلى المدرسة الابتدائية، وقد لوحظ تفوقه في التحصيل الدراسي منذ سنواته الأولى في المدرسة، مما جعله مقرباً من مدرسيه، وقد بدت عليه بشائر الذكاء والنبوغ وسرعة الاستجابة، وقد أهلته هذه الصفات للتقدم في المراحل التالية من حياته.

انتقل عربيات إلى مدرسة السلط الثانوية، حيث واصل دراسته بتفوق حتى نال شهادة الثانوية العامة، وكان الجيش الأردني كما هو دائماً محط أنظار الشباب الخلص، فقرر غازي عربيات الانتساب إلى القوات المسلحة، فدخل الجندية عام 1944، وقد أثبت مقدرة عسكرية لافتة، وحظي بتقدير ضباطه، مما ساعده على الالتحاق بمدرسة المرشحين في بريطانيا، وقد أمضى سنة في هذه المدرسة ليتخرج برتبة ضابط في الجيش عام 1950.

كان من الضباط الشباب المسلحين بالعلم والمعرفة، وبالروح المتوقدة للعمل والخدمة العسكرية، على أسس من الاحتراف والتميز، بعد ذلك التحق بمدرسة المشاة البريطانية، في دورة متخصصة، وقد قدم من خلال تفوقه في هذه الدورات الخارجية، صورة ناصعة عن أفراد وضباط الجيش الأردني، وقد أهلته هذه الإنجازات للتقدم إلى الصفوف الأولى في الجيش.

أصبح غازي عربيات قائداً لكتيبة المشاة، فكان من القادة الميدانيين المؤثرين، حيث خدم على خط التماس مع العدو، فقد كان مع جنده في الحجابات الأمامية، يرصدون تحركات العدو، وكانت الجبهة تشهد توترات متلاحقة قبيل معركة الكرامة الخالدة، لكن عيني غازي عربيات وجنوده لم تنم، بل كانت بالمرصاد، فأدرك بحسه العسكري اليقظ الخطر الداهم، فأرسل عدداً من الجنود، الذين تسللوا داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وراقبوا الحشود العسكرية الإسرائيلية، وقد عمل عربيات على تزويد القيادة، بتقارير تفصيلية عن الحشود وتسليحها، وكيفية تجمعها، وتنبأ بتحركاتها على مختلف المحاور، ولعب دوراً مشهوداً خلال سير العمليات، فساعد كثيراً سلاح المدفعية في إصابة أهدافه وتدميرها، من خلال المعلومات الدقيقة التي قدمها، حيث كان لسلاح المدفعية دوره الحاسم في معركة الكرامة، ليسطر النشامى أول انتصار عسكري عربي على إسرائيل، وإلغاء أسطورة الجيش الذي لا يقهر.

لم تتوقف مسيرته العسكرية الناجحة، فأصبح ضابط ركن أول، فخلال الفترة من 1949 – 1950 التحق بكلية القيادة والأركان الأمريكية، وقد اجتاز هذه الدورة بنجاح لافت، فهو كعادته لا يرضى بأقل من التميز، ولم يدم به الأمر طويلاً فسرعان ما عاد إلى مقاعد الدراسة والبحث، لكن هذه المرة في الصين الوطنية، منتسباً إلى كلية الحرب العليا، فحاز شهادتها بالدرجة العليا مع مرتبة الشرف عام 1974، وتتواصل توجهات غازي عربيات في العلوم العسكرية، فقد أدرك أن العلم سلاح لا يقل نجاعة عن الأسلحة الحديثة، لذا لم يتوقف عن البحث من أجل المعرفة، حيث اغتنم الفرصة السانحة، وسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مبعوثاً إلى كلية الإدارة العليا للضباط الكبار، تاركاً بصمته الخاصة في التميز محلقة في فضاء الكلية، فكان في كل مرة يعود إلى وطنه الأردن محمل بالخبرات والمعارف الجديدة، التي يضعها دائماً موضع التطبيق العملي، مساهماً في نقل ما اكتسبه إلى زملائه الضباط.

لقد واكب غازي عربيات تقدمه المعرفي والعلمي، مع احتلاله لمناصب عسكرية مهمة وبشكل متواتر، فأصبح مساعداً لمدير المخابرات العامة، واثبت كفاءة واضحة في انجاز مهام هذا المنصب الحساس، مما جعله أهلاً لمزيد من الثقة، وتم تعيينه مديراً للاستخبارات العسكرية، فكان واسع الاطلاع وصاحب رؤية ومنهج خاص في القيادة الميدانية والعمل الإداري.

اختير مستشاراً عسكرياً لرئيس الوزراء، وأصبح بعد ذلك مدير مديرية شؤون الأفراد للقوات المسلحة لفترة من الزمن، تسلم بعدها قيادة فرقة المشاة الثانية، واستمر متنقلاً في مهامه ومناصبة المتعددة مؤكداً تميز خبراته ومهنيته العالية، فلقد عهد إليه بمنصب مساعد رئيس هيئة الأركان للقوة البشرية، من ثم مساعد رئيس هيئة الأركان للاستخبارات العسكرية.

نال غازي عربيات رتبة لواء عام 1974، وأسندت إليه مسؤولية مديرية الأمن العام، حاصلاً على الثقة الملكية بتعيينه مديراً لمديرية الأمن العام، وكان هذا المنصب محطته الأخيرة التي كللت خدمة العسكرية والشرطية، وجعلت منه اسماً لامعاً، كقائد عسكري ورجل أمن صاحب بصيرة ثاقبة، وقد نال اللواء عربيات خلال مسيرته الحافلة بالعطاء والتميز، عدداً كبيراً من الأوسمة والنياشين منها: وسام الاستقلال من الدرجة الأولى، وسام الكوكب الأردني من الدرجة الأولى، وسام النهضة، وسام العمليات الحربية في فلسطين، وسام الخدمة المخلصة، ميدالية الكرامة، وسام اليوبيل الفضي، وسام الراية الساطعة والسحابة ووسام النصر البريطاني، وسام الكفاءة العسكرية الصيني، وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، وسام الاستحقاق المصري، وسام ظفار العماني، الوسام الفضي الكبير، ووسام الأرز الوطني اللبناني من مرتبة ضابط كبير.

لقد دللت مراحل حياة اللواء غازي عربيات، على ما تمتع به من قدرات فذة، وعمل مخلص ومتميز، حيث حظي بتقدير محلي وعربي ودولي، وكان دائم الحركة والنشاط، ويبث الحماس في من حوله، قريباً من كل الناس.

غير أن القدر لم يمهله كثيراً، فلقد خطف من بيننا بشكل مفاجئ، وهو في ذروة العطاء والتميز، فأثناء عودته من دولة قطر، بعد أن مثل الأردن في مؤتمر مدراء الشرطة العرب، تعرضت سيارته لحادث سير مؤسف على طريق مطار عمان المدني في ماركا، مما أدى إلى وفاته، في الحادي عشر من شهر نيسان عام 1979، وقد شكل فقدانه صدمة كبيرة لكل من عرفه وعمل معه، فلقد غاب عنا تاركاً إرثاً كبيراً من العمل الصالح، والصفات التي سطر عليها إنجازاته بحروف ذهبية، وسيبقى في الذاكرة مثل شعاع لا ينفذ مداده.

هزاع البراري
جريدة الرأي
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))