سليمان النابلسي .. عــاشــق الـحريــة و الــوطــن



فمع إطلالة الدستور العثماني عام 1908 أبصرت عيني سليمان النابلسي الحياة في السلط حاضرة البلقاء، التي تنفتح شرفاتها على الطرق العابر للنهر المقدس، لتتواصل مع نابلس توأمتها في الشكل والروح ، فتكون مثالاً للتواصل والتأصل، ومنارة تشع بالعلم وتزدان بالرجال القابضين على عهد الانتماء، ينتسب النابلسي لعائلة عريقة نزحت أوائل القرن التاسع عشر إلى السلط، لقرب المسافة وتداخل المصالح التجارية وتوثق الصلات والنسب ، مع الإشارة إلى أن السلط كانت في تلك الفترة قائم مقامية تابعة لمتصرفية نابلس، مما يؤكد وحدة الأرض والإنسان على رقعة هذه الأرض الطاهرة ، وهو بذلك ينتمي أسرة مزارعين بالدرجة الأولى لم يلتحق شبابها بالوظائف الحكومية إلا بعد جيل سليمان النابلسي ، كما يذكر ذلك المؤرخ سليمان الموسى.

تلقى النابلسي تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة النجاح في نابلس ومن ثم في الكلية الانجليزية في القدس ، ولوحظ ولعه بالسياسة في سن مبكرة متأثراً بالمناخ الحماسي الذي صبغ طلاب ومعلمي مدرسة السلط في تلك الحقبة ، فبالرغم من عدم انتسابه لمدرسة السلط إلا انه ساهم خلال إجازاته بقيادة كثير من المظاهرات ذات التوجه الوطني والقومي والمناهضة للاستعمار، وهجرات اليهود إلى فلسطين، وبعد حصوله على الثانوية التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت التي ضمت نخباً من الشباب العربي المستنير ، وكان حاضرا بقوة على الساحة الطلابية، فأصبح رئيسا لجمعية العروة الوثقى الأدبية في الجامعة، ثم اثبت مقدرته وسعة اطلاعه وشعبيته بين أوساط الطلبة، عندما تولى رئاسة لجنة الحكم الذاتي التي تفصل في الخلافات بين الطلاب أنفسهم أو بينهم وبين إدارة الجامعة ، وهو كما يصفه حسني فريز وقد زامله في الدراسة الجامعية بأنه: حلو الشمائل ، فيه صفات القيادة من شجاعة وإقدام وكرم ، قوي الشخصية وله عينان نافذتان فيهما عمق وقوة، وهو يلقب منذ شبابـه البـاكر بـ (أبو الفوارس).

بعد أن حصل على الشهادة الجامعية في العلوم عاد إلى السلط ، وكان ذلك سنة 1932 م ، حيث عين بعيد ذلك معلماً في مدرسة الكرك، وكان من طلابههزاع المجالي، وقاد يومها أول مظاهرة طلابية في الكرك ضد وعد بلفور ، لكنه نقل بعدها إلى مدرسة السلط ، وكان النابلسي صاحب فكر قومي مستنير ، سخّر جل جهده في سبيل توعية الطلبة بخطورة ما يحاك للأمة من مكائد ومؤامرات ، داعياً للوحدة العربية باعتبارها الحل الأمثل لوقف الأطماع الاستعمارية ، وقد تنقل النابلسي بين وظائف عدة، حتى أصبح سكرتيراً في رئاسة الوزراء سنة 1942 م ، ولم يتخل عن فكره ونزعاته السياسية رغم الوظيفة وقيودها ، فعندما منح امتيازاً لشركة أجنبية للتنقيب عن المعادن في الأردن ، وسرت الشائعة أنها قد تكون يهودية .ساهم سليمان النابلسي في المعارضة بشكل كبير، ومستنهضا في أكثر من مدينة محركاً الناس ، وتحمل في سبيل ذلك النفي إلى بلدة الشوبك طيلة فصل الشتاء القارص ، وكان أيامها من المؤيدين للسياسي الأردني صبحي أبو غنيمة. ومع انتمائه للمعارضة راسخ ، إلا أن اعتداله، ووعيه السياسي والوطني، قاده للمشاركة في حكومة سمير الرفاعي الثانية 1947م ، فيما اعتبر إنصافاً لجيل الشباب الذي يمثله النابلسي ، بعد ذلك تفرغ للعمل السياسي والتفت حوله جماعة عرفت باسمه، وقد اصدر جريدة ( العهد) الأسبوعية في تلك الفترة ، وعارض معاهدة 1948 م بشدة من خلال جريدته، وسجن على اثر ذلك نحو تسعة أشهر ، حيث بدأت حرب فلسطين وانتهت وهو خلف القضبان ، ليكون بعد ذلك من اشد المناوئين لسياسة توفيق أبو الهدى الذي رأى في المعاهدة مصلحة أردنية في ظل التهديدات الإسرائيلية ، وفي العام 1950 م أسس النابلسي مع مجموعة من رفاقه ( حزب الجبهة الوطنية) ، ولعبت هذه الجبهة التي ضمت عدداً من السياسيين دوراً فاعـلاً في الحيـاة السياسية الأردنـية خلال الفتـرة من 1952-1957 م ، وقد كانت هذه الجبهة مظلة للأحزاب اليسارية التي لم تحصل على ترخيص رسمي كالحزب الشيوعي وحزب البعث ( بحسب ما يذكره سليمان الموسى).

لم يتهرب سليمان النابلسي من تحمل المسؤولية التي لم تتعارض مع اتجاهاته السياسية ، فقد منحه الملك عبد الله الأول لقب ''باشا'' وشارك في حكومتي سمير الرفاعي الثانية والثالثة ، في عهد حكومة فوزي الملقي عين النابلسي سفيراً للأردن في لندن، اضطر خلالها لإنفاق أضعاف المرتب المخصص له من حرّ ماله لما تميز به من كرم وسخاء واضح.

خلال خدمته في بريطانيا كسفير ، قام رفاقه بتأسيس ''الحزب الوطني الاشتراكي '' الذي تولى منصب أمانة السر فيه هزاع المجالي ، ليخلفه بعد استقالته سليمان النابلسي ، وقد تنامت قوة '' الحزب الوطني الاشتراكي '' الشعبية، مستفيداً من الجو الذي عم الأقطار العربية في تلك الفترة والدعوة إلى الناصرية وما رافقها من مشاعر جياشة ، ومستثمرين المواقف الشعبية التي رافقت الرفض لانضمام الأردن إلى حلف بغداد ، وبهذه الظروف دخل الحزب الانتخابات النيابية التي جرت يوم 21 تشرين الأول عام 1956م، على أسس حزبية علنية لأول مرة في الأردن، وقد تحالف الحزب مع الأحزاب اليسارية ومع الجبهة الوطنية، حيث فاز مرشحي التحالف بما يزيد عن نصف عدد النواب البالغ مجموعهم أربعين نائباً. ورغم عدم فوز سليمان النابلسي في الانتخابات التي ترشح لها مع رفاقه ، فإن جلالة الملك حسين بن طلال كلفه بتشكيل الحكومة على اعتبار أن اكبر تكتل نيابي ينتمي لحزبه ، وقد جاءت وزارته ائتلافية حزبية في الدرجة الأساسية ، وكان ترأس سليمان للوزارة تتويجاً للعمل السياسي الذي قام به على مدى خمسة وعشرين عاماً ، وقد عصفت بالمنطقة أحداث كبيرة أثرت على حكومته ، وارتكب بعض وزرائه أخطاء ترك آثارها السلبية في العلاقة بين الحكومة والقصر وبين الحكومة وغالبية الشعب ، وخلال حكومته تم إنهاء المعاهدة مع بريطانيا وتلا ذلك توقف للمعونات البريطانية من جهة، وعدم وفاء بعض الدول العربية بالتزاماتها اتجاه الأردن في هذا المجال من جهة أخرى، وهذه كلها تركت آثرها في مسيرة الحكومة.

عندما ينجح النابلسي في تعديل وزارته ، استقالت الحكومة يوم 10 نيسان 1957 م ، تم تكليف حسين الخالدي بتشكيل الحكومة، التي دخلها سليمان النابلسي وزيراً للخارجية والمواصلات ، مثبتاً انتمائه لوطنه ، مؤكدا على نهجه الشخصي المعتدل ، ومساهماً في دعم استقرار الأردن ليتجاوز صعوبات المرحلة المتسارعة ، لكن وتيرة الأحداث تلاحقت بسرعة كبيرة، فشكل إبراهيم هاشم الحكومة، وأعلن الأحكام العرفية التي فرضت على النابلسي الإقامة الإجبارية في منزله لحين استقرار الأوضاع ، بعد ذلك صدر العفو العام. حظي النابلسي في سنواته الأخيرة بحب الناس ورعاية الغفور له الملك حسين بن طلال ، وقد داهمه مرض نقص كريات الدم الحمراء، وبعد فترة علاج قاوم المرض خلاها الدواء، استفحل الداء مع الأيا م، حيث توفي سليمان النابلسي في مستشفى الجامعة يوم 14 تشرين الأول 1976 ، ودفن في عمان في اليوم التالي ، تغمده الله بواسع رحمته.

هزاع البراري
جريدة الرأي
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))