أحمد النجداوي : مناضل من زمن الخير والإصلاح



احتضنت الجبال مدينة السلط، وكأنها مسيجة بالقلاع الحصينة، وقد استندت منازلها وبيوتها إلى تاريخ حضاري عميق، وفر للمدينة قدرة فريدة لولج المستقبل بكل ثقة وتميز، وقد كانت لفترات طويلة سابقة قلب منطقة جنوب بلاد الشام، حيث لعبت أدواراً كبيرة في المجال السياسي والاقتصادي والحراك الديمغرافي، الذي ميز المنطقة منذ بدء الهجرات الأولى فيما قبل الميلاد وحتى تأسيس الإمارة وما تلا ذلك من أحداث، لذا كان لرجالاتها دور وتأثير كبيرين، في تطور المخاضات السياسية التي شهدتها المنطقة، منذ أواخر القرن الثامن العشر، وقد أهل الواقع المضطرب للمناطق التابعة للدولة العثمانية، كل من السلط وجبل عجلون والكرك، لتصدر كثير من الأحداث المناهضة للقمع المبالغ فيه للولاة والعسكر الأتراك، الذي بلغ ذروته خلال وبعيد ثورة الكرك ومحيطها عام 1910م.

يعد الشيخ أحمد النجداوي، مثالاً واضحاً على الرجال الوطنيين الكبار، الذين مثلوا بحياتهم ومنجزاتهم مرحلة كاملة وربما أكثر من مرحلة، فلقد ولد الشيخ أحمد النجداوي ومدينة السلط في أوج نشاطها وحراكها اللافت في المجالات كافة، حيث كانت ولادته في أغلب الروايات عام 1898م، وبما لاشك فيه فأن أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت المخاض الحقيقي للتغيرات الكبيرة التي شهدتها البلاد العربية والعالم، والتي مهدت لقيام حربين عالميتين، تركتا أثاراً على خريطة العالم حتى يومنا هذا، وقد نشأ أحمد النجداوي بكنف والده الذي يعد أحد زعماء البلقاء العشائريين، ووجهاً من وجهاء بلاد الشام، وقد تعلم أحمد النجداوي في الكتّاب، الذي يشرف عليه رجال الدين، من أجل تعليم الأطفال القراءة والكتابة، في ظل ندرة المدارس، بل وعدم وجودها في كثير من المناطق، حيث عانت البلاد من الإهمال إبان الحقبة العثمانية، وقد كان للكتاتيب دور رائد في إنقاذ أجيال من الأمية، لكن المؤسسة التعليمية التي انتمى إليها، هي مدرسة الحياة حيث تعلم فيها كيفية الدخول إلى عالم الكبار، متسلحاً بالشجاعة والإقدام، وفصاحة اللسان، وأتقن مواجهة مصاعب الحياة، والاعتماد على النفس، وكان لوالده ومضافته دورهما البارز في بناء شخصيته، وإعداده لخوض مراحل حياته القادمة.

بعد مرحلة الكتّاب التحق أحمد النجداوي بمدرسة الرشيدية، ودرس فيها المرحلة الابتدائية، وكان من القلة التي حظيت بالتعليم في المدرسة الحكومية أواخر الحكم العثماني، وكان متميزاً لفت الانتباه بذكائه وسرعة بديهته، وقد أهله ذلك للانتقال إلى مدرسة السلط التي تقاطر إليها الطلاب من مدن وبلدات الأردن قاطبة، حتى غدت أول مدرسة ثانوية في الأردن، وخرّجت مجموعة من الرواد، الذين تحملوا أعباء مرحلة التأسيس الأولى وما تلاها، وقد درس فيها النجداوي عدة صفوف، وكانت المدرسة تضم نخبة من المعلمين الذين حملوا الفكر القومي في بذوره الأولى، مما أشاع مناخاً سياسياً مناهضاً للاستعمار الغربي، وما يتعرض له العرب من مكائد ومؤامرات، وقد أسهم هذا الأمر، والمضايقات الناتجة عنه، بالإضافة أسباب أخرى متعددة، إلى اضطراره ترك المدرسة.

انتقل أحمد النجداوي بعد مدرسة السلط إلى الحياة العملية، وهو في بواكير الشباب، فلازم والده في المضافة، وفي جولاته في منطقة البلقاء، مما مكنه من الاطلاع على أحوال الناس ومشاكلهم، وتعلم كيفية حلها والتعامل مع الأحداث المختلفة، وقد عمل مع والده في الزراعة، فتعلق خلال هذه الفترة بالأرض، فأدرك قيمتها وعشقها حتى لحظات حياته الأخيرة، وقد جالس في بيت والده مجموعة من رجالات تلك المرحلة، منهم محمد المحيسن، وحسين الصبح، ومبارك أبو يامين وأحمد أبو جلمة، وقد كان لهؤلاء الرجال أثر كبير في شخصيته وبنيته الفكرية، فبالإضافة لتربيته في مدرسة السلط، فلقد أسهم معارفه ومن التقى بهم في توجيهه نحو القومية العربية، بالتالي صبغ واقعه النضالي بشكل ملحوظ، حيث كان مهتماً بما يجري على الساحة الفلسطينية، فكان على صلة بعدد من أمثال حسين الطراونة، سليمان الروسان، صبحي أبو غنيمة، عبد الهادي الشمايلة، وقد عارضوا المعاهدة الأردنية البريطانية، ونتج عن هذه المعارضة، حراك سياسي فاعل، حيث تم تأسيس أحزاب معارضة كحزب المؤتمر الوطني، وحزب الشعب، وحزب الاستقلال وغيرها من الأحزاب التي نحت نحو المعارضة للغرب المستعمر.

راقب أحمد النجداوي بقلق، التزايد الكبير في الهجرة اليهودية الصهيونية، بمساعدة البريطانيين، التي كانت العامل الأساسي لقيام الثورة الفلسطينية، وقد قاده حسه الوطني والقومي العالي، إلى الالتحاق بالثورة الفلسطينية عام 1936م ليلة زفافه، مرافقاً عدداً من أبناء الأردن، مع مجموعة من أصدقائه من السلط كعلي العبويني، أحمد النعمان وعبد الرحمن النجداوي، وقد خاضوا معارك ومواجهات طاحنة بالإشتراك الثوار والمناضلين الفلسطينيين، وقد عاد بعد إخماد الثورة، لكنه بقي على اتصال مع الوطنيين في الأردن والمناضلين داخل فلسطين، حيث كانت هواجس النضال والمخاطرة في سبيل الأرض وحرية العرب، ناتجة عن إيمانه أن الوطني العربي وطناً واحداً، الدفاع عن أي جزء منه واجب مقدس على كل عربي، فعاد في مطلع عقد الأربعينيات من القرن الماضي، إلى جبال فلسطين متصلاً مع الثوار، ومشتركاً معهم في المواجهات الدائرة بينهم وبين اليهود والبريطانيين في المقابل، ثم عاد إلى شرق الأردن، ونتيجة لنشاطه السياسي والنضالي الذي أزعج بريطانيا دولة الانتداب على الأردن، تم ملاحقته ومضايقته، مما اضطره للمغادرة باتجاه سوريا لفترة من الزمن.

شارك أحمد النجداوي مع جيش الإنقاذ العربي بقيادته الأردنية، الذي دخل إلى فلسطين بعد انسحاب بريطانيا منها في ظرف دقيق، بعد أن مكنت الصهاينة من خلال الهجرة غير الشرعية، والتسليح الحديث، ونقل الفيلق اليهودي إلى فلسطين، الذي ساهم مع دول التحالف في الحرب العالمية الثانية، بما يملك من خبرات عسكرية دموية، وتسليح متطور، وبذلك دخل النجداوي إلى فلسطين مناضلاً للمرة الثالثة، وقد كان له دور كبير في تهريب السلاح، من خلال معرفته بمعابر نهر الأردن، في مناطق يكون مستوى الماء منخفضاً، ويمكن قطعه سيراً على الأقدام أو على ظهور الدواب، وقد مدت هذه الطريقة المقاومين بالسلاح والذخيرة، لكنها لم تفي بكافة الاحتياجات، في مواجهة الترسانة العسكرية اليهودية.

مع تزايد خبرته السياسية، وإدراكه لأهمية تحصين البلاد ضد ما يحاك لها من مؤامرات، تهدف إلى إضعافها والنيل من صمودها، سعى إلى المعارضة الديمقراطية، فخاض الانتخابات البرلمانية في دورتي عام 1964م، و1967م، وقد شكل كتلة انتخابية مع عدد من رجالات الوطن، الذين اجتمع معهم في النهج السياسي من أمثال: محمد نويران المناصير، بشارة غصيب، سلطان العدوان، لكن الحظ لم يحالف هذه الكتلة في الانتخابات، لكن ذلك لم يبعده عن فكره السياسي، وظل الوطني الغيور، الذي رأى في تمكين وتحصين الأردن، إضافة جدار حصين في البناء العربي الشامل، وعرف عنه قدرته اللافتة في حل المشاكل الكبيرة، التي تحدث داخل مجتمعه ومحيطه، حيث يلجأ إليه الناس في الحوادث الصعبة، فلقد تمكن مع عدد من الرجالات من تحقيق المصالحة بين عشيرتي الفواخرية والفواعير، وبين عشيرة الحديد وعشيرة الطراونة وغيرها من أعمال الخير وإصلاح ذات البين.

انتقل أحمد النجداوي للسكن في مدينة عمان، وصار من سكانها الفاعلين، وقد عين عضواً في بلديتها، فلعب دوراً في تطوير خدمات العاصمة، كما شارك في تأسيس جمعية السلط الخيرية، وكان أول من أفتتح معصرة أوتوماتيكية لعصر الزيتون، واستمر يعصر للناس زيتونهم مجاناً لوجه الله مدة سنتين، فكان جواداً كريم النفس، لا يرد صاحب حاجة، ولا يتأخر في عمل الخير، وقد عرف عنه دأبه على الاجتماع بأصدقائه يوم الاثنين من كل أسبوع، بما يشبه الصالون الثقافي السياسي، وقد أبدى جلالة المغفور له الملك الحسين إعجابه بهذا التجمع الأسبوعي، وأعتبره برلماناً مصغراً، ولم يغادر أحمد النجداوي نهجه في السياسة، وأسلوبه في الحياة، حتى توفاه الله في الحادي والعشرين من شهر آذار عام 1993م، عن عمر مديد خدم خلاله وطنه وأمته، وأغاث الملهوف، وساعد كل محتاج، فمن عاش بين الناس محموداً بالخير لا ينقطع ذكره أبداً.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))