الشهيد موفق السلطي .. بطل معركة السمّوع



ارتبط اسم موفق السلطي بالشهادة والبطولة في مرحلة الصدامات شبه اليومية، عندما أحيكت المؤامرة على الأمة في ظلمة حالكة، وهي تحمل سلاح الثورة من أجل الحرية والاستقلال، فكان وعد بلفور طعنة مؤلمة في الظهر، وعندما اشتدت مخالب العصابات الصهيونية في فلسطين، المدعومة بالفيلق اليهودي القادم من ميادين الحرب العالمية الثانية، بكل خبرته وتسليحه، وتعطشه للدماء والقتل، وقعت النكبة التي وضعت معظم الأرض الفلسطينية تحت الاحتلال، وشردت مئات الألوف من السكان، وقد انبرى الأردن منذ لحظة انسحاب القوات البريطانية من فلسطين، تاركة الوضع على ما هو عليه، للدفاع عن الأرض المقدسة، وكان للأردن التي قادت جيش الإنقاذ العربي دور كبير ومشهود في الحفاظ على القدس وما عرف فيما بعد بالضفة الغربية، التي أصبحت بقرار شعبي جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وقد فرض هذا الواقع على الأردن أعباءً اقتصادية وعسكرية تنأى عن حملها دول كبرى، فلقد اتسعت خطوط المواجهة مع العدو المتربص، في ظل قلة الموارد البشرية والمالية، وقلة السلاح وقدمه، لكن الواجب والبسالة جعلت من الجيش الأردني مهاب الجانب، ومشهوداً له من العدو قبل الصديق بقدرته وشراسته في المواجهات.

ولد الشهيد موفق بدر السلطي، على ربوة من روابي السلط الشماء، حيث كانت هذه المدينة ولا زالت ترنو إلى القدس والأرض المباركة منذ فجر التاريخ، فهي نظيرة نابلس وتوأمها، ونبتت عروق الشجرة الطيبة هنا وهناك، وقد نشأ موفق في حارات وأزقة السلط، ناثراً أحلامه على صفحات سنواته الأولى، ممسكاً بسحر الأرض وبالأسرار العميقة، والتخيلات عن الأبطال القدامى، المبثوثة في قصص الجدات وكبار السن، وأخذت عيناه وعقله بالتفتح بوعي على الحياة الكبيرة، والمدهشة في تحولاتها، وقطع المراحل التعليمية المدرسية، بنبوغ وفطنة لافتين، قد لامس وجدانه مع وصوله إلى بواكير الشباب، ما تعرضت له فلسطين، ويعانيه إنسانها من تشرد وظلم لا يحتمل، فما كان منه بعد أن أكمل دراسته هذه، أن بادر بالانتساب إلى القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي الأردني- فكان من الشباب المتعلمين الذين أخذوا بالانخراط في صفوف الجيش، الذي ألقيت عليه أعباء وطنية وقومية كبيرة، وهو بعد في طور التأسيس والتدريب، وكانت السماء المتسعة الميدان الحقيقي لأحلام وطموحات موفق السلطي، لذا اختار سلاح الجو الأردني، الذي كان بؤرة صغيرة أخذت بالنمو السريع، حتى تمكن هذا السلاح الحديث من فرض نفسه، كرقم صعب في ميدان المعركة المحتدمة مع العدو.

تم تزويد سلاح الجو بعدد من طائرات الهوكرهنتر البريطانية الصنع، وقد أصبح لدى السلاح فوج من الطيارين الأردنيين الذين تم تدريبهم بشكل حرفي عالي المستوى على الطيران القتالي، من خلال طائرات الهوكرهنتر، وكان خط الهدنة يشهد خروقات ومناوشات يومية يفتعلها العدو بقصد النيل من الجيش وهز ثقته بنفسه، وقد تميز العدو بامتلاك طائرات حديثة من طراز ميراج المتطورة وهي صناعة فرنسية، تعتبر متقدمة على طائرات الهوكرهنتر، وتمتلك طائرات ميراج ميزة اختراق حاجز الصوت، ومقدرة على المناورة القتالية بشكل فعال، لكن ذلك لم يؤثر على واجبات سلاح الجو الأردني، الذي دخل أول معركة جوية حقيقية في 21/12/1964م، اشتبك خلالها مع الطيران الإسرائيلي فوق البحر الميت، في منتصف نهار ذلك اليوم، وقد اشترك في هذه المواجهة الجوية التي تعد الاختبار الأول لهذا السلاح الجديد للجيش الأردني، كل من فراس العجلوني، جورج متى، بدر الدين ظاظا، وغازي الصمادي، وقد تمكن النشامى من إسقاط طائرة إسرائيلية، دون أن تصاب الطائرات الأردنية بأي أضرار.(د.سعد أبودية) 

لفت موفق السلطي الأنظار منذ ساعات تدريبه الأولى، فلقد تميز بسرعة البديهة، والشجاعة والإقدام، فكان طياراً حربياً بالفطرة قبل أن يتمرس بالمران والدراسة، وكان كعين الصقر التي تجوب سماء الوطن لتحرسه وتذود عن حماه، وقد وصفه قائد سلاح الجو الأردني آنذاك الفريق صالح الكردي، أنه على كفاءة عالية، رغم صغر سنه، والخبرة القليلة لهذا السلاح في الأردن، وكانت له تكتيكاته الناجعة والملفتة التي جعلته محط اهتمام ورصد الأعداء، ونظراً لما تمتع به من سمات ذهنية وجسدية، وقع عليه الاختيار للمشاركة في دورة تدريبية متقدمة في بريطانيا، تسمى دورة « مدرب قتالي « وهي دورة مكلفة وتشترط في المشارك شروطاً لا تتوفر إلا في عدد قليل من الطيارين، وقد اجتاز هذه الدورة بنجاح متميز، وضاهى خلالها كبار الطيارين البريطانيين، لذا كان له أسلوبه الخاص في الهجوم والمراوغة، والقدرة على النيل من المقابل، والانسحاب ببراعة تمكن من خلالها، وبتعاضد زملائه الطيارين الذين لم يقلوا عنه في المستوى والجاهزية، من أن يكسب سلاح الجو الأردني الاحترام والمهابة في المعارك.

كانت إسرائيل دائمة التعدي على حدود الأردن في الضفة الغربية، ولم تسلم مدن الضفة الشرقية من هذه الغطرسة، لذا خطط العدو بطبيعته الغادرة لمهاجمة قرية السمّوع جنوب مدينة الخليل، وترويع السكان من أجل تهجيرهم، والضغط على الجيش الأردني، فكانت معركة السمّوع التي جرت في 13/11/1966م، حدثاً مدوياً لأنها كانت بمثابة مجزرة أدانها العالم أجمع، فلقد هاجم الإسرائيليون قرية السمّوع بأربعة آلاف جندي، أي بما يوازي عدد اللاجئين الفلسطينيين في القرية، محتجين بإيوائهم .

وقد دعمت هذه القوات بخمس دبابات، وعدد من السيارات المصفحة وسيارات الجيب وبغطاء جوي كثيف، وقد هبت القوات الأردنية للدفاع عن القرية، وخاض جنودنا معركة شرسة، واجهوا فيها التفوق العددي والسلاح المتطور الفتاك، وقد ضرب لواء حطين بقيادة العقيد الركن بهجت المحيسن أروع صور البطولة والفداء، وقد وصلت معلومات عن اشتراك الطيران الإسرائيلي الحربي بشكل كبير في المعركة، إلى قيادة سلاح الجو الأردني، الذي بادر بإرسال تشكل من طائرات الهوكرهنتر، وتبعه بتشكيل ثانٍ، وكانت هذه المعركة الثانية التي يخوضها هذا السلاح، ورغم كثافة طيران العدو، بطائراته الحديثة، إلا أن طيارينا كانوا الأبرز، وتمكنوا من توجيه ضربات مؤلمة للقوات المعتدية وللطيران الإسرائيلي.

لفتت مشاركة الطيار موفق السلطي نظر الإسرائيليين، الذين يرصدون تطور الأردن في هذا المجال، حيث تفوق على الطيران الحربي الإسرائيلي، وأسقط طائرتين إسرائيليتين، وأصاب ثالثة سقطت دخل الخط الأخضر، وقد لاحق الطيران الإسرائيلي طائرة موفق السلطي، وذكر الطيار الإسرائيلي الذي تصدى لهذه المهمة، أنه درس أسلوب موفق السلطي في الهجوم والمراوغة، وفهم تكتيكاته المتطورة، وتمكن بفضل ذلك من إصابة طائرته إصابة مباشرة، بعد عودته من أرض المعركة بلا ذخيرة، وقد قفز موفق من الطائرة المصابة بالمظلة، لكن الطائرة كانت في وضع ميلان أفقي، فلم تفتح المظلة، فأستشهد قريباً من الضفة الغربية للبحر الميت، وقد تمكن الطيار الأردني مروان نور الدين الذي كان يقود طائرة هيلوكبتر من العثور على جثته الطاهرة، على أديم الأرض المباركة.

ومع حلول مساء ذلك اليوم كانت القوات الأردنية رغم خسائرها في الأرواح وقلة العتاد، تلحق الهزيمة بالقوات الإسرائيلية، وتتمكن من دحرها إلى ما بعد خط الهدنة، وقد أستشهد من الجيش الأردني (21) شهيداً، وأصيب قائد اللواء بهجت المحيسن في أرض المعركة والرائد ضيف الله الهباهبة، الذي استشهد متأثراً بجراحه البليغة، ورفض الإسرائيليون الاعتراف بخسائرهم، وذكرت تقارير غربية، مقتل العقيد «يواف شاهام» قائد العملية وإصابة عشرة جنود آخرين.

كان لاستشهاد الطيار موفق السلطي صداه المؤلم لدى الأردنيين، فلقد كان من الجيل الذين حملوا أعباء الحرب الجوية المتطورة على أرواحهم، متسلحين بالعزيمة وحسن التدريب، متفوقين على الطائرات الحديثة والسريعة، فكانت لهم الغلبة على الإسرائيليين في معركتين متتاليتين، بفضل العنصر البشري المتميز، وقد شكل موفق السلطي أنموذجاً فريدا في البطولة اقتدى به كل من جاء بعده من صقور سلاح الجو الأردني، وتكريماً لهذا الشهيد البطل فقد أطلق أسمه على واحدة من أهم القواعد العسكرية – قاعدة الشهيد موفق السلطي – في الأزرق، ليبقى عنواناً للبسالة والفداء في سماء الوطن وترابه الطيب الحر.

هزاع البراري
جريدة الرأي
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))