نمر الحمود .. من وطني رجالات مرحلة التأسيس



تعتبر السلط منذ بديات القرن التاسع عشر مركزاً اداريا هاما، ومرتكزا للزعامة العشائرية الوطنية ، في وقت ساءت فيه الادارة العثمانية ، فاسحة المجال للزعامات المحلية لملء الفراغ ، وهذا الدور مكن السلط كحاضرة للبلقاء، أن تكون مركزاً في الاقليم فاق حجمها الاداري ، فبعد ان كانت تتبع ولاية الشام غدت تابعة لنابلس ، المدينة التوأم ، في فترة سابقة على توأمة المدن المفتعلة هذه الايام ، فكان أن تراكمت الزعامة في رجالات السلط، التي لم يناظرها في شرق الاردن سوى قلعة الجنوب الكرك ، وهذا ما نشط الحركة التجارية والتعليمية في المدينة العريقة.

ولعل من اهم ميزات هذه المدينة المتشبثة بقمم الجبال هو تعدد الزعامات وتعاضدها مشكّلة نسيجاً فريداً اسهم في بناء الكيان السياسي للأردن منذ فجر التأسيس ، ولا شك أن نمر باشا الحمود هو احد ابرز رجال الأردن، في تلك المرحلة بالغة الحساسية والمشقة ، فلقد ولد نمر الحمود المفلح الحمود العربيات في مدينة السلط نحو عام 1880م ، ونشأ في بيت زعامة العشيرة ، وتفتح على احاديث كبار رجالات السلط في المضافات، التي كانت بمثابة الجامعة التي علمته الشؤون الادارية والسياسية بالفطرة حيناً، وبالممارسة والاطلاع احياناً أخرى . ولا شك أنه تعلم في الكتّاب كحال اقرانه في تلك الفترة، التي تبدى فيها إهمال وتقصير الدولة العثمانية ، وقد عرف عنه الذكاء والفطنة وسرعة البديهة ، وهي صفات اهلته لحمل راية الزعامة مع رجالات السلط المعروفين ، وقد تمكن من خلال صفاته الحسنة ونباهته من تعلم اللغة التركية ، وكان ذلك نوعاً من الاحترام للدولة، قبل استشراء فساد مؤسساتها المتحكمة بسلطة الباب العالي في اسطنبول.

توسعت مكانته منذ شبابه ، وصار حضوره يترسخ مع الايام ، وقد تزوج من آل الساكت وأنجبت له زوجته أبناء، صاروا من كبار رجال السلط والدولة الاردنية الفتية، كالسياسي عبد الحليم الذي أصبح رئيساً لمجلس النواب، وعبد الله الذي أصبح فيما بعد أول وزير للمالية بمسماها الحديث ، وعبدالرزاق ، وكلهم خدموا الوطن بإخلاص كعهد الأردنيين جميعاً ، والرجال من أمثال نمر باشا الحمود يتجلى حضورهم في الشدائد . فبعد جلاء الاتراك وسقوط دمشق فيما بعد بيد الفرنسيين، وخروج الملك فيصل منها ، عانت المنطقة من فراغ إداري وسياسي ، فتنادى رجال البلقاء من أخل تأسيس حكومة السلط المحلية، التي ضمت عمان ومادبا أيضا، هادفين إلى تحمل المسؤولية، وحفظ الأمن والبلاد ، لكن ضعف الامكانات وقلة الخبرة، لم تمكّن هذه الحكومة من القيام بمهامها ، فكانت الحاجة ماسة لحكومة عربية وطنية مركزية تلم شمل المنطقة بأسرها ، فتم الالتئام حول الحلم القومي الذي مثله الامير عبد الله بن الحسين، الذي أسس امارة شرق الاردن عام 1921 م متخذاً من عمان عاصمة للبلاد.

ونظراً لحساسية موقع الاردن ، وللحراك السياسي والعسكري في المحيط ، ولتنامي الوعي بالمخاطر المحدقة بالامارة الناشئة ، كان نمر الحمود أحد أعضاء اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني العام الذي أسس للحياة السياسية الحزبية في الاردن ، وقد حدثت تجاذبات متعددة وكبيرة، خاصة ما رافق المعاهدة الاردنية البريطانية ، فاسهم الحمود في تاسيس حزب الشعب الاردني عام 1928م ، وكان لهذا الحزب دعواه المعارضة للانتداب من جهة، والدعوة لإنصاف ابناء الاردن في الوظائف من جهة أخرى ، وهذا يؤكد ما كان يتمتع به الحمود من حس وطني وقومي يتعاضدان ولا ينفصلان ، وهو أيضاً يؤكد على مكانته السياسية الوطنية ، وبما يحظى به من احترام وتقدير كبيرين على طول البلاد وعرضها.

ونظرا للدور الكبير الذي اضطلع به في مدينته السلط ومحيطها، ولإسهاماته في حل كثير من القضايا والمشاكل، التي خففت الحمل عن حكومة الاستانة المنهكة ، منح الباب العالي الذي يمثل السلطان العثماني، وساماً رفيعاً للحمود تقديراً لمكانته وتكريماً له. وفي عهد الإمارة منحه الأمير عبد الله لقب باشا سنة 1923م، ليعرف بهذا اللقب ليومنا هذا، اعترافاً وعرفاناً لما يمثله من مكانة، لما قدمه من خدمات وتضحيات أسهمت في تمتين بنية الدولة الاردنية الناهضة، وسط بحر من القلاقل والهزات العسكرية والسياسية، ليس في الشرق العربي وحسب بل في العالم بأسره.

لقد كان نمر الحمود زعيماً في قومه ، وطنياً في انتمائه ، قومياً في تطلعاته وأفعاله ، وكان صاحب دور بارز في الحياة الاجتماعية، حتى تجاوز دوره هذا حدود السلط، حتى شمل البلقاء المترامية الأطراف من زرقاء ماعين وحتى سيل الزرقاء ، وهو صاحب ديوان يقصده الرجال من كل مكان ، يتحاورون فيه ويتبادلون الآراء ، ومنهم من كانت له حاجة أو لديه مشكلة، يبتغي لها حلاً عن طريق تدخل نمر باشا ، ولم يأت لمضافته صاحب حاجة وعاد خائباً أبدا.

عرف عن نمر الحود تجوله في المنطقة وإكرام الناس له ، وفي إحدى هذه الجولات وفي الغور الاوسط تحديداً، توفي هذا الشيخ الكبير بمكانته ودوره البارز الذي كان يقوم به ، كان ذلك في شهر شباط عام 1946م ، وقد نقل جثمانه الى السلط حيث دفن، وقد تداعت البلقاء ورجالات الاردن لتوديعه والتعزية بفقده ، فقد كان محبوباً ومصلحاً لذات البين ، كريماً دون رياء، كان رجلاً من فئة الرجال الكبار ، وزعيماً محلياً قدم كل ما يستطيع خدمة للناس وللوطن وللقيادة ، وهاهو يؤكد حضوره القوي رغم مضي السنوات وتوالي الاجيال.

هزاع البراري
جريدة الغد
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))