عامر خماش : أول طيار حربي ورئيس هيئة الأركان الأسبق



شهدت مدينة السلط إبان الحقبة العثمانية، نهضة ملحوظة مقارنة بالمدن والبلدات الأردنية الأخرى، وسط وشمال البلاد، فنشطت حركة التجارة وازدهر التعليم نسبياً، وأصبحت من المدن الجاذبة للهجرة والاستقرار، وكانت السلط تشكل حاضرة البلقاء، والمدينة الأبرز في وسط البلاد، وتحولت إلى مركز إداري تتبع له مدن البلقاء وما حولها، كانت عمان قرية كبيرة تابعة إلى قائمقامية السلط، التي تتبع بدورها متصرفية نابلس، في تمازج لافت يمتد عرضياً أكثر من تواصله طولياً، متسقاً مع التوزيع التاريخي للمنطقة بحسب الأجناد العرضية، وقد فضل كثر من القادمين إلى شرق الأردن منذ منتصف القرن التاسع عشر الإقامة في السلط التي اتخذت صفة المدينة الحديثة منذ فترة ليست بالقصيرة، بل سابقة على كثير غيرها، لذا نجدها حاضرة بقوة في الذاكرة الوطنية، من خلال دورها التاريخي، ومساهمة رجالاتها في مسيرة بناء الأردن بمؤسساته المختلفة حتى وصل إلى الدولة النموذج في المنطقة.

لقد عانق جبين الفريق الركن عامر خماش، تراب السلط مسقط رأسه، عندما خرج إلى هذه الدنيا معلناً ولادته بتاريخ 14/11/1924م، في بيت عريق النسب، ومعروف في السلط ومدينة نابلس، وكان والده بسيم رفيق خماش صاحب مكانة في الدولة والمنطقة، وشغل منصباً إدارياً مؤثراً، حيث كان يعمل مدعياً عاماً لكل من السلط وعمان التي كان ناحية صغيرة، لذا فقد اختار الإقامة في مدينة السلط، وقد وفر عمله هذا فرصة كبيرة ليطلع على الأوضاع العامة للناس، ويكون قريباً منهم، ويبدي اهتماماً خاصاً بتربية أبنائه على القيم الأصيلة، وتقدير الوطن، وإيلاء التعليم عناية وتقدير خاصين، رغم ندرة المؤسسات التعليمية، وقد التحق عامر خماش بالمدرسة، وهو يرسم أولى خطواته نحو الحياة القادمة، التي كانت تخبئ له الكثير من المحطات الكبيرة والحاسمة في مستقبله، المتداخل مع بناء الدولة الأردنية الحديثة.

كانت مدرسة تجهيز عمان، التي عرفت فيما بعد بمدرسة عمان الثانوية، المشكل الثاني لشخصيته، بعد أن أخذ من والده الشيء الكثير، وقد برز كطالب مجتهد، متقدم في دروسه، وتمكن عام 1941م من الحصول على شهادة الثانوية العامة، وكانت مدة الدراسة حينها عشر سنوات، وجد عامر خماش احتمالات كبيرة تنفتح أمامه، لكن حسن انتمائه لبلده، ووعيه الفطري والمعرفي بما تحتاجه في هذه المرحلة المبكرة من عمر الدولة، فقد قرر التقدم لفحص الراغبين بالالتحاق بالجيش العربي الأردني، وقد اجتاز الفحص بتميز، لكن صغر سنه حال دون قبوله، حيث لم يزد عمره عن ستة عشر عاماً، ووصل به تعلقه ورغبته الحقيقية بدخول المؤسسة العسكرية، أن لجأ إلى الحصول على شهادة تقدير سن، جعلته في عمر الثامنة عشرة من العمر، فدخل الجيش في عام 1941م، وبعد أن أنهى مرحلة التدريب العسكري، عمل كاتباً في القيادة العامة، ولم تقف طموحاته عند هذا الحد، وهو يستشعر في نفسه طاقة لا محدودة للعطاء والتميز، فبارد في عام 1944م بالتقدم إلى اختبار المرشحين، وقد تفوق فيه لصبح مرشحاً، ليدخل نتيجة لذلك كلية المرشحين البريطانية، ومقرها شمال مدينة عكا الفلسطينية، حيث تخرج منها في العام نفسه، ليكون ضابطاً في الجيش الأردني حاملاً الرقم العسكري (346) أي من الضباط الرواد.

وبعد فترة وجيزة من تخرجه من الكلية البريطانية، أرسل في دورة إلى مدرسة المدفعية البريطانية، الموجودة في هليويوليس/القاهرة، ليصبح بذلك ضابط مدفعية متخصص، حيث كان لهذا السلاح فعالية كبيرة في الحروب الحديثة، وتوالت الدورات التدريبية التي ألحق بها، فلقد تم إلحاقه بمدرسة المشاة التي أخذت مكان معسكر «سيدني سميث» شمال عكا، ليدخل دورة قادة السرايا مشاه، مستفيداً من إتقانه للغة الإنجليزية، بعدها التحق بمدرسة الأسلحة الصغيرة في معسكر قرب غزة، لم يكن عامر خماش خلال هذه الدورات يرضى بغير التميز وتحقيق المراكز المتقدمة، لذا لم يضع فرصة للتعلم واكتساب خبرات ومعارف جديدة، فدخل دورة طيران ملاحظة جوية عام 1949م، من خلال سلاح الجو البريطاني، وكان بذلك أي بعد تخرجه عام 1950م، أول طيار أردني ممارس ومعترف به رسمياً، مسهماً بتأسيس سلاح الجو الأردني، وقد استمر في هذا السلاح الحديث طياراً مدة ثلاث سنوات، عاد بعدها إلى سلاحه الأول المدفعية.

عمل عامر خماش على تكريس أسمه كعسكري من طراز فريد، منذ عودته إلى سلاح المدفعية، حيث أرسل في دورة إلى مدرسة مدفعية سلاح البحرية الملكي البريطانية، للتدرب على ملاحظة نيران مدفعية البوارج، وهبوط الطائرات على الحاملات، وعندما عاد إلى الأردن حظي بتقدير كبير، وقد عبر الملك المؤسس عبد الله الأول عن فرحه برؤية أول طيار أردني، وفي عام 1958م، أصبح أول ضابط أردني يحصل على دورة دراسية في كلية القيادة والأمريكية بولاية كنساس، وقد وضعت صورته في قاعة المشاهير في الكلية، إلى جانب ماك آرثر، وآيزنهاور، ومارشال وغيرهم، كونه أصبح فيما بعد رئيساً لهيئة الأركان العامة الأردنية، وكان بذلك من العسكريين الأكثر حرفية في المنطقة العربية، مما أهله لتسلم مناصب عديدة في الجيش، ومناصب مدنية رفيعه فيما بعد، فعمل قائد بطارية الميدان السادس، وعندما تخرج طياراً، سلمه الملك عبد الله الأول وسام الطيار، في احتفال في عمان عام 1951م، وقد تسلم قيادة سلاح المدفعية، منذ العام 1957م وحتى العام 1962م، من ثم عين مديراً للتخطيط والتنظيم في الجيش العربي، وكان متميزاً في التخطيط الإستراتيجي العسكري، حيث اصطحبه المغفور له الملك حسين بن طلال معه إلى مؤتمر القمة العربية الأول الذي عقد في القاهرة عام 1964م، ليقدم أمام قادة العرب الخطة الإستراتيجية الأردنية للوضع العربي الإسرائيلي، التي لاقت إعجاب واستحسان القادة العرب.

وقد حقق عامر خماش ما فاق توقعاته وأحلامه في شبابه، واستحق عن مقدرة وتميز، أن يتسلم منصب رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الأردني في التاسع من شهر تشرين الأول عام 1967م، وكانت الأمة عربية تمر بمرحلة صعبة بعد حرب الـ 67، ولعب دوراً كبيراً إعادة تنظيم وتأهيل الجيش، ليكون على أهبة الاستعداد، فعندما قامت إسرائيل بعدوانها على الأردن في معركة الكرامة، وكان الفريق عامر خماش رئيس هيئة الأركان، قدم نشامى القوات المسلحة أروع صور البطولة، ودمروا أسطورة العدو الذي لا يقهر، وسطروا انتصارهم بأحرف من نور، وأعادوا الثقة للجيوش العربية، وعام 1969م أحيل إلى التقاعد بعد خدمة كبيرة ومؤثر في الجيش، لينتقل بعد ذلك إلى مرحلة جديدة من العمل وخدمة الوطن.

أصبح الفريق عامر خماش وزيراً للدفاع في حكومة عبد المنعم الرفاعي عام 1969م، مقدماً بذلك خبرته العسكرية، ومقدرته على التخطيط الإستراتيجي الفاعل، وفي حكومة دولة بهجت التلهوني الخامسة عين وزيراً للنقل والدفاع، وعين بعد ذلك وزيراً للبلاط الملكي، ومن ثم عين مستشاراً شخصياً لجلالة الملك حسين بن طلال، وبعد تنقله بين المناصب العسكرية والمدنية، وتميزه في ما أوكل إليه من مهام، وتقديراً لخدماته وإخلاصه فقد تم تعيينه عضواً في مجلس الأعيان الأردني، وكان خلال عمله في القوات المسلحة الأردنية، قد رافق عدداً من رؤساء الحكومات الأردنية، وذلك خلال الفترة من 1953م وحتى 1956م، وقد حاز الفريق عامر خماش خلال مراحل خدماته المختلفة على عدد من الأوسمة، التي أكدت على مكانته الكبيرة، والتقدير الكبير الذي حظي به على المستوى الرسمي والشعبي، فقد حاز على وسام الاستقلال ووسام النهضة ووسام الكوكب الأردني من الدرجة الأولى، وقد استمر في العطاء حتى بأفكاره رغم وصوله إلى سن متقدمة، وفي يوم السبت الثالث عشر من شهر شباط 2010م، توفي الفريق الركن عامر خماش عن عمر ناهز السادسة والثمانين عاماً، تاركاً أرثاً طيباً وعملاً صالحاً سيبقى يذكر به على مدى الأيام.

هزاع البراري
جريدة الرأي
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))