ثانوية السلط كانت متميزة في التعليم .. بالاستعداد والانفتاح والصراع الفكري بين الأحزاب


...زمان، كانوا ينادونه «الأستاذ»! وفي ذلك كانوا يسبغون عليه جاهة الثقة وتبجيل العلم وأمانة التربية والاعتراف له بالريادة والتصدّر. كان المعلم بالنسبة للناس هو المربي والقدوة والمحامي والقاضي والوجه الاجتماعي الذي يتصدر المجالس...حتى في طلب النسب وفي العطوات.

أيامها لم يكن التدريس وظيفة بقدر ما كان نمط حياة تتصل في وجدان الناس بقداسة النواميس في تعليم الإنسان ما لم يعلم. كان المدرّس الواحد نقابة معلمين كاملة وبدون الحاجة لترخيص. وإذ تسمع للرواد وهم يستذكرون تاريخ البدايات تشعرأن الذات منهم (وهم فعلاً ذوات) تغرف من ذاكرة وطنية موصولة برأس النبع. فتاريخ التعليم هو تاريخ الأردن، بكل صفحاته البيضاء والخضراء والحمراء وأيضاً صفحاته المنسية التي نحاول في هذه الحلقات أن نضيء عليها، لنعرف أين يكمن الخطأ في المسيرة التربوية وكيف تراكم حتى أصبح خطيئة تمشي على الأرض.؟؟

رواد التعليم في الأردن لديهم الجواب ولديهم التفاصيل التي سقطت من الذاكرة الوطنية. الذاكرة لديهم موجودة في القلب، وحين نستمع للتفاصيل ندرك لماذا تغيرت الأحوال، ولماذا المعلم الذي وصفه أحمد شوقي «كاد أن يكون رسولاً»، أضحى في السنوات الماضية معلماً حسب الشاعر إبراهيم طوقان «لا يعيش طويلاً».

في مثل هذا اليوم من كل اسبوع سنطل عليكم إن شاء الله لانعاش الذاكرة الوطنية بما قدمه الرواد الأوائل الذين نقشوا بجوار صخور البتراء أحجاراً إنسانية فذّة، وأرسوا عمارة تعليمية معززة برؤى تربوية جددتها أجيال ساهمت عميقاً في تنمية وتأهيل المنظومات التعليمية في الأردن والدول الشقيقة. ولعل ما سيسمعه الجيل الحالي من تلك التفاصيل التي لم تدوّن من قبل... لعله أن ينفع في مسيرة الإصلاح التي ننهض بها الآن.

ملك التل
إذا كانت هناك من صورة تختصر جلّ ألوان العهد التعليمي الأزهى في تاريخ المملكة، بكل ما تختزنه الذاكرة من مزايا تربوية وسجايا شخصية فيها قدوة الاحترام والتواضع والجدية والتكريس والافق السياسي والانتماء والنزاهة ... فلن يتردد الكثيرون في ايراد اسم الدكتور عبد اللطيف عربيات. فمن زاملوه طالبا في ثانوية السلط او معلما في جنين او استاذا في الجامعة او ناشطا سياسيا من نخبة القيادات الحزبية على مدى العقود الماضية، او رجل دولة في سدة البرلمان ...

للدكتور عربيات (مواليد السلط عام 1933) ذكريات مع ثانوية السلط كأنها يوم امس الأول لشدة ما تستوطن الوجدان . وللرجل من موسوعية الفكر ورحابة السريرة مع فتوة الذاكرة ما يجعله يستحضر الماضي بمنظور الراهن والقادم ليطرح ما يستحق ان تسمعه اجيال الشباب وقبلهم قيادات العمل العام.

البداية؟
من السلط الثانوية ذات المستوى التعليمي المتميز. التميز كان بالاستعداد والانفتاح والصراع الفكري بين الأحزاب. كانت مرحلتان - الابتدائية والثانوية - في مدرسة واحدة ولكل قسم ساحته الخاصة في الصباح نأتي مبكرين، السابعة صباحاً، نصطف في ملعب المدرسة الكبير ونبدأ بالتمارين السويدية، وقد أتقناها اتقاناً كبيراً حيث أخذنا الجائزة الأولى في أكثر من سنة في المهرجان العام السنوي الذي كان يقام على مستوى المملكة.

ومن ثم كنا نخرج بطوابير من الساحتين حيث يأتي أحد الطلبة ويلقي كلمة تكون في أي موضوع يريده سواء علمياً أو اجتماعياً ومن بعده يلقي أحد الأساتذة وأحيانا مدير المدرسة كلمة توجيهية وبعد ذلك ندخل في صفوف منتظمة إلى الصفوف الدراسية . كنا ندرس أربع حصص وفي الساعة الثانية عشرة والنصف نذهب إلى الغداء ونعود الساعة الواحدة والنصف ونكمل حتى الرابعة والنصف وأحياناً للخامسة، وبعدها ننتقل للنشاط الرياضي المسائي والنشاط الثقافي والاجتماعي. كانت انشطة غنية جداً سواء كان رياضياً حيث هناك فرق رياضية مميزة، أو كان اجتماعياً أو ثقافياً حيث يعدون تمثيليات نقوم بتأديتها على مسرح المدرسة وحتى هذه اللحظة ما تزال في مخيلتنا انطباعات حقيقية عن ماذا نتكلم أو أي موضوع نتكلم. كان أسلوبا للتربية حقيقيا. أذكر أحد الطلاب وهو عبدالفتاح العواملة كان يسكن في منطقة زي يأتي للمدرسة مشياً على الأقدام، ودوره أن يلقي كلمة الصباح فوقف يتكلم عن المدرسة. كانت كلمته جميلة ومميزة، وغيره من أصحاب النشاط المميز منهم علي البشير كان طالباً ويمثل دور الشراري الذي دخل المدينة بكل اتقان وايضا محمد العمد كان يمثل صاحب مطعم، وتمثيليات اجتماعية أخرى كنا نعيشها، ومن زملائنا ايضا محمود الكايد .. كنا 1200 طالب نجتمع في الصباح في الملعب الكبير فنشعر وكأننا في طابور عسكري.
ايضاً؟
أذكر الصراع الحزبي والأساتذة الحزبيين منهم عيسى مدانات وكان شيوعيا، وإبراهيم العايد بعثيا.. كانوا يتحدثون بفكرهم والطلاب يناقشونهم. في السلط الثانوية كنا كخلية نحل بنشاطاتنا وحراكنا الفكري والصراع الحزبي بين الاسلاميين والبعثيين والشيوعيين . عندماحصل خلاف بين طالبين اخذ اكثر من مداه حتى شمل المدرسة كلها وتدخلت الشرطة والجيش وأخذوا منا 80 طالبا إلى سجن البلد الذي كان مركز الفرسان فجاء على اثر ذلك وكيل وزارة التربية وألقى كلمة قال فيها: (أمر جلل وكبير، ثمانون طالبا من المدرسة إلى السجن، هذا شيء جلل، وشيء خطير).. هذا الكلام ما زال في ذاكرتي وكأنه يتكلم الآن، فالطلاب الذين دخلوا السجن كانوا من كل الفئات حتى ان عائلات الطلبة التزموا بافكار ابنائهم ويدافعون عنها، اسلاميين ويساريين وبعثيين .. حراك شديد كان يحصل بينهم.. السلطية العشائرية تلاشت وحل محلها الصراع الفكري هذا ما كنا عليه في بداية الخمسينيات 15/11/1952 واليوم في 2010 يصبح في الجامعة الأردنية الصراع الجهوي والعشائري للأسف الشديد.

النشيد الصباحي؟
كانت أناشيدنا وطنية وكان أكثر من نشيد، منها (موطني) و(بلاد العرب أوطاني)، الكلمات الصباحية كانت كما ذكرت متنوعة من الطلاب ومن الأساتذة، وأذكر مدير المدرسة الكيلاني كان شاعراً يلقي كلمته ويقول الشعر وكأنه يمثله تمثيلاً حقيقياً، فكنا كطلاب نشعر بأننا أمام مدير موجه ومربي وأمام توجه وطني كبير، أمام معرفة من يتكلم ومن لا يتكلم.

لقاءاتكم الحزبية؟
كانت بين الطلاب داخل وخارج المدرسة، لم يكن خارج المدرسة إلا نادي الاتحاد وهو للقوميين ونادي الإخوة المسلمين للإسلاميين، ، وأذكر بأن دار الإخوان المسلمين مفتوحة للجميع، وما زال في ذاكرتي حبيب الزعمط وهو طالب مسيحي. وعندما منع المدير ذهاب الطلاب إلى النوادي والجمعيات، وقف الزعمط ورد عليه : (لا نقبل بهذا، كيف تمنعونا من دخول دار الإخوان المسلمين، نحن نذهب لللعب التنس والرياضات الاخرى )، مما يدل على الوعي وعدم التمييز بين الجنسيات او الاديان والتي نفقدها الآن.

وكتربوي أقول أن مدخلات التعليم ومخرجاته لا يوجد تناسب بينها الآن، فالمدخلات كبيرة والمخرجات ضعيفة والعمليات في الوسط هي التي تشوه، لا يوجد عمليات تنتج نتائج صحيحة.

النشاط الفعلي؟
النشاط الحقيقي كان يبدأ في الثانوي بعد الصف السابع، ولكن كان هناك نشاط قوي من حيث حضور التمثيليات الطلابية والمحاضرات الطلابية، توجيه الأساتذة، حتى في الابتدائي كان فيها انتماء وفكر لكن بالدرجة الأعلى كانت في الثانوية حيث أصبحنا فاعلين ومنتجين وليس فقط متلقين، نعرف ما نريد ونبحث. أذكر أنني قدمت بحثا في المرحلة الثانوية حيث قمت بالرد على معلم الأحياء في نظرية التطور، فكنا نبحث ونجهز ونرد على الأساتذة في المدرسة. هذا المستوى من الفكر كان موجود لدينا. وأذكر ايضا عندما كان مدير المدرسة يعلق بيانا أو إعلانا كان يجمع عدد من الطلاب ويسألنا عن البيان ويأخذ رأينا قبل أن يعلقه.

المواد التعليمية ؟
الكتب كانت قليلة، فمثلاً كتب العلوم كان المعلم يشرحها ونحن نكتب، أو نعود لمصادر، بينما اليوم كل شيء مجهز من كتاب ومنهاج والدليل والمعلم وغير ذلك، ومع ذلك ليسوا في سوية ما كان المعلم يشرحه ونحن نكتب بخط اليد، وليس لنا كتاب إلا في مرجع.

أسلوب التدريس ؟
الأستاذ تقليدي بشكل عام، لكن هذا التقليدي به انتماء وإخلاص، فعندما أقول حسن البرقاوي فهذا يعني شيئا كبيرا كان يعلمنا اللغة ويحترمنا ونحترمه، وندافع عنه وعن الأساتذة، وكنت أعتبره مثل والدي، هذا الإنسان عندما كان يتكلم ويقرأ طالب ويخطيء كان ينصعق. كان الأستاذ يأتي ساعة قبل الدوام ويعطي لطلاب التوجيهي حصة إضافية بدون مقابل، ويأتي يوم الجمعة ويعطي حصصا دون مقابل، انتماء المعلم لمهنته كان من أعلى درجاته، وكانت نظرة الأهالي للمعلم بتقدير كبير .. كلمته الأولى .وحتى رئيس البلدية عندما يريد أن يصحح كتاب أو يخرج كتاب كان يعرضه على مدير المدرسة أو أحد الأساتذة.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))