اطلالة على سحر المكان .. سالتوس

في حضرة السلط تقفز إلى الذهن رؤيا بلعام بن بعور حكيم مؤاب صاحب نقش تل دير علا الذي يحمل من الملامح ما يمكن شرعنته أول نص أدبي أردني. يمزج بين السوسيولوجي والديني والتراثي ، والطقسية الأسطورية التي تلبس لَبوسَا حضاريا يقابل بين الموروث والمعاش ، وبين الثقافة مشرباً والمثاقفة معايشة. لقد كان فضاء السلط عتبه الولوج إلى عالم القصّ والحكاية منذ عشرات القرون في الشرق الأدنى القديم ، ففي البلقاء.. أنقذ علماء اللغات السامية والآثار نصاً عمونيا يرقى إلى الفترة ما بين القرنين العاشر والثامن قبل الميلاد كتب على الجص بحبر ذي لونين: أسود وأحمر.. نالت العوامل الطبيعية منه ، فأتلفت بعض حروفه ، وإذا كان نقش ميشع مسلة تأريخية تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد ، فإن نقش هذا النقش العموني رؤيا أحادية الحكاية مسرودة بنفس القص الأسطوري الشرقي القديم في أوغاريت وبلاد ما بين النهرين وبعض مقاطع النقوش الكنعانية. 

وإن كانت تلك النقوش قد نالت من الاهتمام والدراسة ما أبرز مكانة التراث الأدبي في الشرق القديم ، فقلما كان الالتفات إليها في الأردن سوى ما درسه فان دير خوي وجو آن هاكيت وليبنسكي وغيرهم من المستشرقين ، وترجمة بالعربية لدراسة ليبنسكي للغول.

وتعمر قامات الأشجار البلقاوية ساكنة القلوب التي في الصدور.. ففوق أوراق كل واحدة منها وجوه نعرفها.. هي بعض ملامحنا.. لون الحياة في سيمياء وجوهنا.. وها هي أعشاب براريها وأزهارها ، تمتد سجادة تتراقص الأوان فوق صفحتها.. تأخذنا عبر مساحة العمر مبدعة عشقاً وحميمية وبهاء.. إنها زرقة السماء في أعالي الهضبة وزركشات الطبيعة فوق الربى والسهول وتاريخ مجيد لا نطوي في الغياب صفحة تحوي سطرا من سفره ، تمنح الأردنيين ذكر الحنين.. وإكسير التشبث بالوطن.. فلا نكتمل بدونه... تلوذ به إرهاصات العمر.. وبطون الأسرار والغياب.. فيه تَسْتَرجًع الحكايا صداها.. نوافذا على طفولتنا.. ودفاتر أيامنا.. وتأخذنا إلى أزقتة التي عَلًق توهجها في حروف كتبنا المدرسية وأناشيد الصباح.. "موطني موطني.." والتي قد وطنت لها بدايات الإصلاحات التعليمية في القرن التاسع عشر عن طريق ديوان المعارف الذي أطلق مجانية التعليم في مراحل التعليم الابتدائية والرُشدية والعالية بعدما كانت الكتاتيب مراكز العلم التي اتخذت من المساجد أو منازل الشيوخ المعلمين مقرا لها. وفي العقد الثامن من القرن التاسع عشر تداعى أهل السلط إلى هذا الحدث الكبير فبنيت المدرسة بتبرعات سخية من أهالي القصبة وقارب المبلغ الذي جمع اثني عشر الف قرش تقريبا. هذه هي العزائم التي أبقت السلط دوما مدينة الإبداع والرؤى ، وزماناً شامخاً أبياً ، نظم فيها الشعراء معلقات استشراف القادم المشرق من أحقابها ، وهي التي ما جحدت وطنها ولا عروبتها ، وما تثلّم سيفها ، وقد رقَّ نسيمها ، فتسابق إليها الشعراء والعشاق ، ألا إنها السلط ، في فلق الصبح ، وجلال الوصل ، وقد فاض هطلها.. وسحّ نداها على مفارش طيبها.. وسندسًها الباهي.. وأخضرًها بمراشفه الزاهية. 

ولقد كان المعلمون في مدرسة السلط شأنها شأن باقي مدارس ذاك العهد ينقسمون إلى قسمين معلم أول ومعلم ثان ، وقلما زادوا على ذلك إلى ثالث. فعرفت السلط من معلمي مدرستها الأولى محمد العطار وإبراهيم أبو الطيور وعبد الرؤوف شمس الجوهري.. وسلسلة خيرة تطول.. فهكذا هي السلط.. دفتر ينسكب عطر الكلم بين دفتيه.. قناديل تشعل فتيل الحرف.. تترتل في أعاليها أَنْ اقرأ وربك الأكرم.. كانت شراع الأردنيين نحو دروب المعرفة.. وفك أسرار المدى ، والندى ، ومفردات الحكايا ، وغضار السنين.ويؤشر هذا الوقت المبكر في تعليم قرابة أربعين طالبة من الإناث على حراك الوعي بأهمية التعليم في السلط وجوارها ، فهنا على عتبات السلط عشعش الصفصاف ، وتفتحت الذاكرة أبوابا مشرعة على مقامات الأنبياء والصالحين ، وكل انغراز أوجاعهم ، وقد احتشد عليهم أقوامهم لا لهم ، فكان شعيب ، ويوشع بن نون وجاد ، شهود الربى السلطية وهي تقرأ عليهم أطيب السلام. 

وبعد انتهاء الحكم التركي توقفت المدرسة عن التعليم مرحليا ثم ما لبثت أن عاودت استقبال الطلبة في المرحلة الابتدائية ، وعند تأسيس الإمارة انطلقت مدرسة السلط في مسيرتها التعليمية والتنويرية أقوى من أي وقت مضى. لقد بنى أبناء السلط مدرستهم بأيديهم ، وجمعوا لها التبرعات استكمالا للبناء وتجهيزا لها بمتطلبات التعليم فتكونت المدرسة من عشرين غرفة تعليمية ومنامة للطلبة والمعلمين. ولقد كان لاتمام البناء أهمية خاصة رافقتها الغبطة والفرحة التي لا تدانى ، وقد تشرفت آنذاك بزيارة سمو أمير البلاد الأمير عبدالله الأول بن الحسين رحمهما الله. وقد تقلبت المدرسة من حيث التصنيف بين المدرسة الأنموذج تمييزا لها عن غير الحكومية ، وهي تسمية لمدارس المرحلة الابتدائية ثم تغير تصنيفها إلى مدرسة تجهيز بعد إدخال المرحلة الثانوية لها وهي مرحلة مكونة من أربعة صفوف من الأول الثانوي وحتى الرابع الثانوي خلافا لما هي عليه الآن. ها هو العام ينقضي وقد تطلعنا إلى السلط مدينة ثقافية تعي تاريخها التعليمي والثقافي والحضاري ، فعلى ضوء قناديل مدرستها قرأ الأردنيون سفر الوطن.. وتعلموا صهيل الحرف.. وخطّوا درب القلب صوب منازل الهوى في عمون.. وقد ظل رهاننا يقينا على السلط وعلى تاريخها الزاخر حضوراً وثقافة وتضحية ، وعلى سبقها في ميداين السبق ، فها هي اللحظات تلفظ عامها.. تمضي تاركة لشقيقتها الكرك دورها مدينة للثقافة الأردنية للعام الذي هلّ هلاله أو أوشك. 

وها هي ذاكرة المدرسة تستنهض الأعماق وما انبعث من عبق الكتب الأولى على نسق حميم خاص.. ينبعث نسيج وحده.. ذاك العبق الذي ملأ مسامَّ الخلايا مذكياً الحواس بزهو غريب.. فلحظة تمَّلّكوا تلك الكتب وتأبطوها تولَّد إكسير التعلق بها. في ساحات مدرسة السلط دَرَج الأردنيون خطْوَهم الأول نهوضاً نحو الغد المزركش بتلاوين الحروف.. وكان نهر الأخضر في رابيتها يكبر ولسان حالها يبتسم لهم وهي ترى غدو الصغار كباراً.. في ساحتها لم يكن أفق المسافات بعيداً وإن طال مداها.. فقد كانت تقرب الخطو مع نبض القلب نحو الغد الواعد.. فقاوم الأردنيون في كنفها الجوع وقسوة الحاجة والفاقة.. وكان العزم الذي يعنون عتبات بواباتها المشرعة شاهدهم على السبق نحو النقطة الأقصى،في الدرس الأول.. ومع وهج أحرف الكلمات المدرسية الأولى انساب نحو شغاف القلب نور حقيقي وفرح طفولي.. رنا البصر إلى المنارات الكبرى في درب العمر طال أم قصر ، وكأنما تعلموا مع فك لغز الحرف الالتفات إلى كل ما حولهم بوعي وإدراك الراشد الصغير.. لم تسفّ أحلامهم.. فقد كانوا من خلال ما عبدت مدرستهم يتطلعون إلى غد عام مشرق ، وإلى غدْ خاص واعد.. فما صرَّ القلم زالاً.. وما شهد من الأردنيين مواطن نكوص..ولقد أورثت ذرى السلط ومرتفعاتها أهلها الشمم وعلو الهمة ، وكانت الطبيعة تتناغم إبداعا إلهيا مع انسجام الصخر والشجر ، وبين علو وغور ، وهي التي تزاحمت على بواباتها المفردات: سالتوس ، وسالتا ، والصلت ، والسلط.. شرفَ انتسابْ لمدينة العلم والنور.. فامتد ذلك أحقابا مبتداها العصور الكلاسيكية ، وعصور ما قبل الإسلام ، مرورا بعهدي الأيوبيين والمماليك والعثمانيين حتى يومنا هذا. ذكرها شيخ الربوة الدمشقي باسمها الحالي ، السلط ، وكانت في مصادر من سبقوه الصلت ، وهي فيها تحاكي أصلها الاشتقاقي اللاتيني سالتا أو سالتوس. ولئن قسا صخر السلط وصَلُب ، فقد حاكى صلابة أهلها ، وقوة عزيمتهم. ولئن تكاثف الشجر وادهمَّ في وادي السلط ، فَمنْ غيرُ البلقاويين جَزُلَ عطاءً ، وأي أفياء غير أفيائهم كانت موئل الأهل وأبناء العمومة والعروبة؟ ولقد تطلعنا في هذا العام إلى السلط مدينة ثقافية تعي تاريخها التعليمي والثقافي والحضاري ، ونحن شهود ذلك ، فعلى ضوء قناديل مدرستها قرأ الأردنيون سفر الوطن.. وتعلموا صهيل الحرف.. وخطّوا درب القلب صوب عمون. لقد راهنّا ونراهن على السلط وعلى أهلها وعلى تاريخها الزاخر حضوراً وثقافة وتضحية ، وعلى سبقها في ميادين السبق ، فها هي اللحظات ترقب عامها.. والتي ما أن تمضي تاركة لشقيقتها الكرك دورها مدينة للثقافة إلا وقد صدق السلطيون الظن والوعد.. فأعلوا للثقافة شراع مراكبهم ، وللربى فوح عطرها البلقاوي.. وللمة الزهر في واديها شدو نشاماه ونشمياته. 

د. سلطان المعاني
الدستور
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))