سعيد خير .. رئيس بلدية عمان في عهد الإمارة




كانت عمان تتحضر لاستعادة مجد عمون وعظمة فيلادلفيا، وهي تستفيق بجهد بنيها بعد عقود من الإهمال التركي ، فمع نهايات القرن التاسع عشر واشراقات القرن العشرين ، دب هسيس الحياة في أروقة المدرج الروماني وعلى أطراف السيل الرقراق ، ونبتت المنازل حول رأس العين واطمأن المهاجرون لدفء الأرض وطيب الجيرة ، وصارت العشيرة الواحدة تمتد وتتنوع ويصبح الأهل باقة يانعة من أحرا ر الوطن الكبير ومريديه ، هكذا ولدت عمان الحديثة وهكذا كانت منذ بزغ فجر الحضارة في المشرق.

السلط الشقيقة الكبيرة حينها ، حاضرة مزدهرة وسط البلقاء ، وكانت عمان في بواكير نهضتها ترسم أولى الخطى بثقة مستقبلا بملامح عربية خالصة ، كان الزمن صعباً والظلم مستحكماً بالقوة وفرض الأمر الواقع ، ومن على هامة احدى روابي السلط ولد سعيد خير عام 1867م ونشأ فيها ، وتميز ببنية قوية وفروسية وشجاعة ، واكتسب من قسوة الحياة وظلم رجال الدولة إبان ضعفها ما عمق نظرته للمستقبل وجعل منه رجلاً شديد المراس قادرا على خوض عباب المصاعب ، دون تردد ودون استهتار ، فكان شبابه شاهداً على ما مرّ بالأمة من غبن، وما يدور في أعماقها من هواجس التحرر والإنعتاق ، ومن هنا بدأ الحس القومي ينمو ويترعرع لدى سعيد خير ، ليكون أحد رجالات الوطن، الذين حملوا على هاماتهم حلم الوطن الكبير وأمل الحرية.

انتقل سعيد خير إلى مدينة عمان، التي بدأت تغادر قرويتها باتجاه شبابية المدينة القادمة ، وعمل خلال هذه الفترة عدة أعمال، فيما يسمى بالأعمال الحرة والتجارة، لكن عمله في التجارة كان السمة الأبرز ، فلقد اكتسبت عمان صفتها التجارية بسبب موقعها، ونمو سوقها بشكل كبير ، مع وجود عدد من أهل الشام ومن أواسط آسيا ، فهي على طريق الحج ، حيث طاب لكثير منهم الإقامة والعمل فيها ، وكان سعيد خير، أكثر من مجرد تاجر فسرعان ما أصبح من أعيان عمان ، رجلا كريما ، شديد الالتصاق بالناس وبقضاياهم ، ومهتما بشؤونهم وأحوالهم ، وهذا جعل له مكانة لدى أهل عمان ، بل بلغت سمعته وتقدير الناس له السلط وناعور وحتى مادبا ، فهو يعامل الناس بحب ومساواة.

كان من أشد المؤيدين للثورة العربية ، ومن الداعين والداعمين لها ، رغم أن خط سير المعارك وجيش الثورة كانا بعيدين عن عمان ، إلا أن سعيد خير شحذ الهمم وهيأ المنطقة للعهد الجديد ، عهد الحكم العربي ، حيث دعا لاستقلال المنطقة العربية كاملة، استقلالاً لا تشوبه شائبة ، وبأن العرب قادرون على حكم أنفسهم بأنفسهم ، وانه آن الأوان للتغيير ، فبادر بالتواصل مع القيادات المحلية في السلط وعمان ومحيطهما ، وكان مشجعاً على الالتقاء والتباحث بشأن المنطقة، بعد خروج الأتراك غير المنظم، إثر هزيمتهم أمام جيش الثورة العربية ، والتقى الوجهاء في السلط، ليتم تشكيل حكومة محلية، سميت بحكومة السلط التي ضمت البلقاء ، فلقد عانت المنطقة من فراغ في الحكم والمؤسسات، خاصة بعد خسارة العرب لمعركة ميسلون ودخول الفرنسيين دمشق، عاصمة الدولة العربية الناشئة ، لكن إدراك سعيد خير ومن معه، لعدم جدوى ونجاعة مثل هذه الحكومات المحلية المجزأة ، دفعه ومن معه للاتصال بالشريف الحسين بن علي، من أجل إرسال أحد أنجاله إلى المنطقة لملء الفراغ والاستعداد لتحرير سوريا من الاستعمار الفرنسي ، كان الحلم كبيراً يفوق إمكانيات المنطقة في شرق الأردن ، لكن الأردن منذور دائماً للأحداث والمبادئ العظيمة ، وقد دلت الأحداث على ما تمتع به سعيد خير من بعد نظر ومحبة خاصة.

في سنة 1920م تولى سعيد خير رئاسة بلدية عمان ، في فترة بالغة الحساسية، والبلاد في حالة ترقب لما ستؤول إليه الأوضاع ، كما أن انتخابه رئيساً للبلدية جاء تكريماً لمكانته الاجتماعية والسياسية ، فكان الاختيار الأنسب للظروف الداخلية، وما يحيط بالمنطقة من دسائس ومؤامرات لا تحمد عقباها ، وقد قام بالدعوة إلى اجتماع كبير عقد في دار البلدية، في أيلول سنة 1920م، تم الاتفاق فيه على مخاطبة الشريف حسين وطلب معونته ، كما اتبع ذلك باستنهاض رجال المنطقة في البلقاء، لمؤازرة الأمير عبد الله بن الحسين وأنصاره ، وقاد حملة لجمع التبرعات من اجل دعم قدوم الأمير من معان إلى عمان، في ظروف حالكة ووسط رفض من قبل الانجليز الذين احكموا قبضتهم على فلسطين.

كان سعيد خير من أكثر المتحمسين لمقدم الأمير عبد الله، وللقضية العربية، وفتح عمان لتكون مركزاً للحركة العربية الوطنية ،ومكاناً لأحرار العرب ومناضليهم بعد سقوط دمشق ، وقد استضاف سعيد خير سمو الأمير في بيته في عمان فترة من الزمن ، ولعل ذلك متن العلاقة بينهما ، وحبب الأمير فيه حتى أن سموه قال فيه ''..زعيم عربي أصيل ألّف بين القلوب وجمع الناس على اختلاف نزعاتهم وميولهم ..''، وقد وصفه الشريف الحسين بن علي قائلاً '' لم أجد له مثيلاً في صدق إخلاصه ووفائه وتفانيه في خدمة البيت الهاشمي ووطنه وأمته''.

سعيد خير مثال خالد للشجاعة والوعي ، وعنوان للانفتاح والإيثار مقدماً مصلحة الأمة والوطن على كل شيء ، متحدياً المصاعب ومبادراً لكل ما هو أفضل ، يقوده في ذلك حسه المرهف وإدراكه الفطري لأحوال الأمة، وما يحاك لها من دسائس ومؤامرات تقسيم ، فكان ينظر لعمان منطلقاً لا مستقراً، إنما هي الريح تجري بما لا تشتهي السفن ، لقد استمر في منصبه رئيساً لبلدية عمان حتى وفاته ، فلقد ارتفعت روحه إلى الرفيق الأعلى في 28/1/1925م ، وقد حزنت عمان على فراقه ، وهي التي مازالت تتذكره صرحاً شامخاً في ذاكرتها ، وقد خرجت عمان لوداعه وحزن الأمير على فقده ، وبلغ من تقديره له أن قام بحمل نعشه مع أهل عمان ، وترحّم عليه كثيراً ، فهو خير صديق ، وكان رجلا عز نظيره، وزعيم حركة وطنية ما زالت تحلم بالحلم الكبير...الوطن الكبير.

هزاع البراري
جريدة الرأي
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))