السلط : المدينة والناس

تتخذ بيوتها من السفوح متكأ

وتمتلئ أدراجها ومصاطبها بالخصوصية والأسرار

تتعرج الطريق إليها بحنان مهيأة للقاء المدينة, تلك هي السلط عاصمة الثقافة الأردنية, بتاريخها ومدرستها وعمرانها وقد احتلت موقعها المشرف على الأغوار بامتياز, إنها عاصمة البلقاء وحاضرتها والأبلق هو الأكثر ضياء وبهاء

غيوم بيضاء ربيعية تأتي من خلف جبالها الغربية التي تطل على القدس حيث وقف يوشع منها متأملا قدس الأقداس أما أنا فمن السلالم تأملت هذا المنظر البهي لمدينة أكملت غوايتها ولبست حلتها الربيعية ومن خلفها تلك الغيوم المعطرة بأريج فلسطين, هكذا أخذتني المدينة نحو تفاصيل عاطفية ونوستالوجيا طفولية لم أحضر من أجلها إنما جئت متأملا عمرانها, لكنني لم أبتعد كثيرا فهي في جميع الأحوال جزء من معمار بلاد الشام, وتذكرني في الحال ببيوت القدس ونابلس وربما دمشق أيضا, رغم أن دمشق تقع على هضبة ممتدة تحت ظلال قاسيون فكان لبيوتها فناء داخلي متفق مع انبساط الأرض, لكن هناك تفاصيل أخرى مشتركة بين المعمارين في البيت الشامي والبيت السلطي مع قليل من الفوارق التي تتلاءم مع طبيعة السلط الجبلية.

تقع السلط على خاصرة طريق العارضة إلى الأغوار حيث تلج إليها عبر واديها, الواقع على يسار الطريق, وتكون السلالم على يمينك فارضا هيبته عليك وهو حي جبلي قديم, يحتل كتف واديها العامر بالناس والسيارات, هكذا تبدأ رحلتك إلى أعماقها وفي روحك شيء من هذا الجدل في طبقاتها, طبقة قديمة من جلعاد القديمة وطبقة بيزنطية عتيقة وأخرى إسلامية فوقها وثالثة تركية ثم حداثة السيارات والمحال التجارية والبشر.

في قلب المدينة حركة معمارية واضحة, ليس باتجاه البناء إنما باتجاه ترميم الماضي القريب, حركة إحياء لماضي المدينة التاريخي, بيوت أعيد استملاكها ليتم إعادتها كما كانت في أيام عزها, بيت الحمود وبيت المعشر وبيت البنا وبيت مسمار وبيوت كثيرة أخرى لعائلات السلط العريقة, ومشاريع لتفريغ الساحة الرئيسية من هجمة الإسمنت كي تعود للمدينة نضارتها.

تتميز مدينة السلط بإنشائية خاصة بها وبنسيج معماري معلق بشكل عامودي على سفوح جبالها (السلالم والقلعة والجدعة) التي تحيط ساحتها الداخلية في وادي السلط المؤدي إلى وادي شعيب هذا المركز الذي تتفرع منه الشوارع والأزقة والأدراج في كل جهات المدينة وشعابها وبهذا تتحول البيوت والمباني إلى نسيج معماري من خطوط عامودية وأخرى أفقية دوارة, وقد لوحها ضوء الشمس بمساحات مضيئة, وأخرى مظللة بالتناوب, صانعة سجادة مطرزة باللون الذهبي المنعكس عن حجارتها الصفراء, ومساحات زرقاء ضبابية صنعتها الظلال, وما بين الذهب والزرقة ترتجف الخضرة من أشجار وكروم.

البيت السلطي مكون من طابقين الأول هو عبارة عن تسوية ترتفع كي تكون أساسا مستويا لكامل مساحة البيت في الطابق الرئيسي كي يتلاءم مع ميل السفح الجبلي, أما الطابق الرئيسي فيتكون من مجموعة غرف تطل إلى الداخل وتنفتح على الخارج بوساطة شبابيك قوسية مزخرفة ومقرنصة, ومصطبة (تراس) معلقة على الخارج ومزينة بأعمدة وزخارف, أما الغرف فتنفتح على ساحة داخلية مفتوحة على السماء وفي الداخل حديقة بيتية صغيرة, تزينها ياسمينة أو كرمة وتغطي أرضها أنواع من نباتات الورد, وبعض البيوت لها بئر ماء واخرى للخزين, وقد يكون هناك كهف في السفح الجبلي خلف الدار. 

أما أماكن العبادة فتتنوع بين مسجد وكنيسة ودير ومقام, ولكل بناء خصوصيته ويحمل خصائص عصور تاريخية مرت عليه, ومع ذلك يتعانق المسجد والكنيسة في المشهد البصري, ويتآلف الإثنان ويتعايشان, وهو تعايش قديم قدم المدينة وعائلاتها, التي أنشأت نوعا من ثقافة سلطية خاصة متسامحة ومشاكسة, تعترف بالآخر وتنفتح عليه, وتعتز بما لديها وما تملك من مقومات, ويتجلى ذلك بعناية أهلها بكل ما يعزز موقع المدينة الثقافي والسياسي والحضاري, وتمثل ذلك في كثير من مبادرات السلطيين, ابتداء من وثيقة السلط الشعبية وصولا إلى مؤسسة إعمار السلط وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني.

جمال المدينة وسحرها يشع من حجارتها الذهبية ومعمارها الأخاذ, إذ تتخذ البيوت من السفوح متكأ, فتبدو وكأنها طبقات من واجهة هرمية ضخمة, لكنها مبتسمة ووادعة, ذلك أن هندسة البيوت فيها تتشابه في كثير من الأحيان ببيوت القدس ونابلس ودمشق, فعمارة بلاد الشام هي السائدة هنا, لكن مضافة إليها الطبيعة الطبوغرافية لمدينة أقامت غوايتها على سفوح واديها المطرز بالدوالي والدحنون, وهكذا تأخذ الأدراج والسلالم مشروعية وجودها في هذه المصاطب المليئة بالخصوصية والأسرار. 

شارع الحمام وهو شارع سياحي بجدارة حيث المحال التي تبيع الملابس والمصنوعات والحرف التقليدية وقد أعاد لي ذكريات الشوارع العتيقة في القدس القديمة, بل عادني ذكرى من حارة الياسمينة في نابلس, ولا عجب فالمدينتان توأمان منذ الأزل, وقد أخبرني أحد السلطيين أن أبا الشاعر حسني فريز كان بناء ونقاش حجر, وقد صنع بيته في السلط على غرار بيوت بناها في نابلس, بل إن كثيرا من النوابلسية قد أصبحوا سلطيين, وكان البناءون هم أنفسهم من بنى تلك البيوت في المدينتين التوأمين.

في شهادة للفنان والمعماري عمار خماش عن مدينة السلط عندما رسمها إذ يقول;- (الرسم وسيلة للتدقيق في تفاصيل الواقع..عندما أرسم مدينة أو قرية أحفظها في ذاكرتي مدى الحياة, وذلك لأن عيناي تتجولان على أطراف الأسوار والنوافذ والأدراج, فإذا قمت برسم باب مثلا فإنني قد رأيته بتفحص, اللوحة تقوم بنشاط العين, الرسم برهان الرؤية), فكل بيت له خصوصية, وكل ركن فيه مشغول بأناقة التفاصيل المعمارية الدقيقة, المقرنصات والأعمدة والأبواب والأقواس والبلاط الحجري, وكل ردهة ونافذة مشغولة بأناقة وفرادة, استفادت من مخزون عمراني متراكم, لمجموعة حضارات سادت ثم بادت, وظلت السلط الشاهد على تلك الحضارات وعلى معمارها الأخاذ.

في السلط أشعرأنني في بيتي, كما أشعر أنني أسكن في جسدي, شيء من السر والغموض والغرابة يستقر في أناي, وأعيش زمنا طويلا بجميع حواسي ومشاعري هنا في شوارع السلط العتيقة, الأصوات والروائح والألوان والحركات والبشر وكل شيء فيها, يتحدى مصادفات الزمان والمكان, هي صورة لرسام مثلي تتحدى وتقول;- أنا هنا أنا السلط والمغامرة, فتعال إلي لتسكنني وأسكنك.

محمد أبوزريق
العرب اليوم
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))