الحلاق وقصيدة ليت للبراق عيناً فترى

تجتاح داخلي عواصف من الذاكرة ، لزمن غابر من مدينة السلط الغالية ، كما تجتاح عواصف المطر الأرض اليباب ، فتعيد إلى جسدي المتعب حيويته وخصبه وتنبت على صدري بوادر القمح الطرية. هذه الذاكرة لم تعد كما كانت ذات يوم قريب ، عشقاً "نستولوجيا" وحنيناً إلى الماضي من الزمن الجميل ولكنها حقيقة في أحاسيسي وجسدي ولم تعد استحضاراً للماضي متخيلاً أو افتراضياً.

الزمن ، يقترب مني في رحلة الإياب لعقود مضت. كانت تجربتي الأولى مع حلاق المدينة رسمياً عندما أخذني والدي إلى مدرسة اللاتين. وقبل تلك الفترة كانت الموس هي الأداة التي يستعملها الآباء لقص شعر أطفالهم الذكور. كانت الحلاقة بالنسبة للأطفال متعة. المدلل منا يحظى بقص حلاقة اسمها "الحوافة" أو "البستان" أو القص الكامل "الأقرع أو الأصلع". وهي شبيهة بموضة هذه الأيام بالرغم من التسمية. وأذكر أنه بعد الانتهاء من القص كنا ننال ضربة خفيفة على رؤوسنا بدلاً من كلمة نعيماً ونهرب بعيداً إلى الحارة.

والحلاقة في التعريف الموسوعي هي قص الشعر أو تصفيفه. وكان الحلاقون في الماضي يقومون بعمل الجرّاح وكثيراً ما كنا نشاهد رجلاً يعبر الحارة ويحمل حقيبة وينادي "حلاق مطهر أولاد" وأحياناً كان يخلع الأضراس والأسنان. وفي عام عام م1540 ، صدر مرسوم في انجلترا منع الحلاقين من القيام بأية عملية جراحية كما منع قانون لاحق عام م1754 الجراح من مزاولة مهنة الحلاقة. وما زال شعار مهنة الحلاقة ظاهراً في شكل عمود حلزوني حوله أشرطة حمراء وبيضاء أمام صالونات الحلاقة ، وهذا يمثل الرباط الذي كان يلفه الحلاق على المريض بعد الفصد. وقد وجد موس بين بقايا العصر البرونزي ، حيث كان الجنود يحلقون لحاهم حتى لا يتمكن أعداؤهم من الإمساك بها. وفي طفولتنا كان آباؤنا يقصون شعرنا حتى لا يتمكن الأطفال منه ، فتضعف مقاومتنا ويتمكنون من التغلب علينا في معاركنا الصغيرة "ولا شمشون الجبار". وتقول الحكايات الكثيرة عن الحلاقين في روما وأثينا بأن محلاتهم كانت أماكن للمناقشة والحوار ونشر الإشاعات ، كما هي الصالونات السياسية في هذه الأيام. وقد جعل الأديب المسرحي "روسيني" من الحلاق "فيجادو" شخصية بطل في مسرحيته "حلاق اشبيلية".

ونتذكر من تراثنا رواية "حلاق بغداد" وقد كانت فيلماً ظهر عام م1954 من بطولة الفنان الهزلي اسماعيل ياسين. وتدور أحداث الفيلم حول حلاق في بغداد يحكي لزبائنه عن جده الأكبر ، بأنه كان له ابن معاق ويحرص على إسعاده فقام بشراء جارية له والتي اكتشفت أن الابن لم يكن معاقاً وإنما فعل ذلك حتى يتمكن من الوصول إلى جارية بنت الوالي.

وأذكر بأن أول حلاق ذهبت إلى صالونه كان بجانب سرايا الحكومة. وكنت أجلس على المقعد ، بينما المرحوم الحلاق يغني وهو يقص شعري بخفة وسرعة:

ليت للبراق عيناً فترى

ما ألاقي من بكاء وعنا

وقد بقيت هذه الأغنية في ذاكرتي عندما سمعت الراحلة أسمهان تغنيها بصوتها الشاكي. وعدت إلى قصة ليت للبراق كما روتها كتب التراث حيث أفادت بأن ليلى العفيفة هي ليلى بنت لكيز بن مرّة (توفيت حوالي عام 483 ميلادي) وهي شاعرة عربية جاهلية. وقد خطبها البراق بن روحان ، ويقال أنه ابن عمها. ولكن أحد أمراء فارس أسرها في إحدى المعارك وحملها إلى بلاده. ورفضت الزواج منه. وظلت على حالها حتى تمكن البراق من إنقاذها وتنسب إليها هذه القصيدة والتي منها:

ليت للبراق عيناً فترى.

ما ألاقي من بكاء وعنا.


عذبت أختكم يا ويلكم.

بعذاب النكر صبحاً ومسا.


غللوني قيدوني ضربوا.

جسمي الناحل مني بالعصا.


وهي قصيدة حزينة تصور العذاب الذي مرّت به هذه الأسيرة الحرة العربية من عسف الأعاجم.

وقد أتيحت لي الفرصة أن أنتقل من صالون حلاقة إلى صالون آخر في مدينة السلط في الساحة وفي شارع البلدية والحارة وهي صالونات كان يرتادها طلبة المدرسة الثانوية الكبار والمثقفون من الشباب وبعض قادة الفكر في المدينة. وأحياناً كان ينتمي صاحب الصالون (الحلاق) إلى اتجاه سياسي قومي أو يساري ، ويحاول أن يتماهى مع المثقفين في المدنية. وأذكر أن أجرة الحلاقة كانت بين 25و5 قرشاً.

أما اليوم فإن صالونات الحلاقة تملأ شوارع المدينة وحواريها في المناطق الأخرى من المدينة ، وهي مجهزة بجميع أنواع "الشامبوهات" وأدوات التجميل "والكريمات والجل" والتي تشكل "تسريحات الشعر" لشبابنا حسب الموضة وشخصية الشاب "ليبرالياً أو محافظاً" ولما أصبح من الصعب علي الذهاب إلى صالونات المدينة وبخاصة صالون "فخري" في الميدان ، وهو حلاق طيب ومحترم ، وكان يستقبلني دائماً بوجهه الباسم البشوش ولم يكن كثير الكلام. وأعترف بأنني أقوم بقص شعري أو ما تبقى من شعر ، في صالون للحلاقة في أحد الفنادق في مدينة عمان على مقربة من "السيفوي" القريب من المدينة الرياضية ولكن بموعد مسبق. وبصراحة فإنني أحب تناول فنجان قهوة "سكر قليل" يحضرها لي من كافتيريا الفندق. ويجب أن أنوه هنا ، بأنني لم أتحدث عن صالونات الحلاقة والتجميل لشقيقات الرجال فهذا لا شأن لي به.

د. سليمان عربيات
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))