رفعت الصليبي ... أخذه الصيد مكانه البعيد



يعد من بواكير جيل الطلائع المتعلم في إمارة شرق الأردن الفتية، حيث كانت السلط مركزاً بالغ الأهمية في منطقة شرق النهر وجنوب دمشق، حيث أخذت دورها في إدارة البلاد، سواء من خلال الزعامات العشائرية، أو من خلال المركز التعليمي و التجاري الذي مثلته منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولعل هذا ما جعل من رجالات السلط يندغمون في الحراك السياسي والاجتماعي الذي اجتاح المنطقة العربية، في أعقاب الممارسات التي انتهجها حزب الإتحاد والترقي الذي استولى على الحكم في الأستانة ، مما أدى إلى نمو المشاعر القومية لدى العرب الخاضعين لحكم الدولة التركية، وهذا الواقع لم يكن بعيداً عن الأحوال في البلقاء قلب الإمارة الناشئة.

كان سعيد باشا الصليبي والد رفعت، من كبار رجال الأردن ولعب دوراً ملحوظاً في المساهمة بالأحداث التي مهدت لقيام الثورة العربية الكبرى، وقد دعم قيام الحكومة العربية في دمشق تحت أمرة الملك فيصل بن الحسين، وهو أول نائب في مجلس البرلمان السوري، الذي أنشئ مع قيام الدولة في البلاد العربية المحررة من الحكم التركي، وكان سعيد باشا ممثلاً عن لواء البلقاء، وهذا يؤكد المكانة التي تمتع بها على صعيد الدولة وعلى صعيد اللواء، ببعديه السياسي والعشائري، ولا شك أن هذا كله قد انعكس على رفعت الصليبي، مما يؤكد النشأة القومية والسياسية والإنفتاح على مجريات الأوضاع في البلاد العربية، وما يحاك لها من مخططات تهدف إلى سلبها استقلالها الحديث الذي تحقق بعد نضال طويل وتضحيات كبيرة.

لقد وافقت ولادة رفعت الصليبي قيام الثورة العربية الكبرى، بمعنى أنه ولد في مفتتح مرحلة هامة في التاريخ العربي الحديث، فجاءت ولادته في العام 1916م، ونشأ في حارات السلط وأزقتها، وكعادة الأطفال في ذلك الوقت يتم إلحاقهم بالكتاب من أجل تلقي أساسيات القراءة والكتابة وحفظ أجزاء من القرآن الكريم، وقد تلقى تعليمه في كتاب الشيخ عبد الحليم زيد الكيلاني، الذي تمتع بمكانة علمية ودينية كبيرة في السلط ومحيطها، ولعل هذه المرحلة كانت هامة في تكريس حب العلم واحترام أهله، وبالتالي مهدت الطريق أمامه ليلتحق بمدرسة تجهيز السلط، والتي أصبحت فيما بعد مدرسة السلط الثانوية المشهورة، وقد استمر ترداده على المدرسة حتى حصل على شهادة الثانوية العامة، وكانت هذه الشهادة كافية حينها ليحصل على وظيفة هامة في التعليم أو في الجهاز الحكومي، لكنه فضل مواصلة تلقي العلم حتى لو تطلب ذلك الابتعاد عن الأهل و الأحبة.

كان على رفعت الصليبي السفر إلى مدينة دمشق من أجل الالتحاق بالجامعة، فلم يكن في الأردن جامعة في ذلك الحين، حتى أن المدارس الثانوية قليلة العدد، وبدأ بدراسة الحقوق بشكل منتظم حتى حاز على الشهادة الجامعية في الحقوق في العام 1938م، في وقت كانت فيه البلاد بأمس الحاجة للشهادات الجامعية، لذا كانت هذه فرصة كبيرة له لكي ينطلق في حياته العملية، فأسس مع شاعر الأردن الكبير مصطفى وهبي التل مكتباً للمحاماة، لكنه انتقل إلى الوظيفة الحكومية، فعين مساعد النائب العام، وهي وظيفة مرموقة وهو بهذا العمر، وهذا أهله ليصبح فيما بعد قاضي صلح عمان، وقد عرف بالجدية والحرص على النجاح في العمل، وكانت المرحلة الثانية قد بدأت عندما انتقل إلى محكمة بداية اربد، وفيها أصبح قاضي أراضٍ بدرجة ممتاز.(معجم أدباء الأردن) 

لم يكتف الصليبي بالوظيفة فقط، بل اشترك في عملية تعديل وإعادة صياغة كثير من مواد القانون الخاص بدائرة الأراضي في عمان، وبذلك يكون قد وظف ما اكتسبه من علم بالإضافة خبرته العملية في تعديل بعض المواد في القوانين ذات العلاقة، وقد تنقل بفضل عمل الحكومي في أكثر من مدينة أردنية، وعرف عنه حبه للناس والطبيعة، وكان مولعاً بالصيد، وكانت هذه الهواية هي التي اغتلته وهو في ريعان الشباب، فالصيد ليس مجرد هواية وحسب بل عمل يخرجه من ضغط العمل ، ويساعده في أعماله الأدبية التي خلدت أسمة رغم عمره القصير.

كانت علاقته بالشعر متجذرة منذ الشباب الباكر، فنظم الشعر صغيراً، ولم ينقطع عن كتابة الشعر في جميع مراحل عمره، وفي الجامعة السورية التي أصبحت جامعة دمشق، كان له حضوره الأدبي و السياسي، وبرز كشاعر ومتحدث باسم الطلبة الأردنيين، وقد مكنه ذلك من الاتصال والتواصل مع عدد كبير من الشخصيات العربية النضالية و السياسية، حيث كانت سوريا تواجه الاستعمار الفرنسي، وقد لعب المثقفون الأردنيون في دمشق دوراً في الحركة النضالية التنويرية، ولجأت كثير من الشخصيات السورية للأردن، الذي وفر لهم الحماية والدعم المادي والمعنوي، وعندما تمكن سلطان باشا الأطرش من العودة إلى سوريا قادماً من الأردن، قام الصليبي بتمثيل طلبة الأردن وألقى كلمة في الاحتفال الذي نظم ترحيباً بعودته.

لعل ارتباطه بالشعر والأدب، كان متسقاً مع اهتمامه بالسياسة التي لم تطغ حياته العملية، فهاجسه قومي وانتماؤه لبلده لم يكن إلا إدراكاً منه لدورها العربي الهام، وقد ترك رفعت الصليبي مجموعة كبيرة من القصائد التي لم تجمع وتنشر في حياته، أنما قام بجمعها وأعدها للنشر الدكتور سحبان خليفات، وقد صدر الديوان عن دائرة الثقافة والفنون عام 1978م، بعنوان(رفعت الصليبي: قصائد ومقالات، له عدد من المقابلات الإذاعية والمحاضرات، وقد عمل مع مجموعة من المثقفين على تأسيس(الندوة الأدبية بعمان)، وخلال وجوده في اربد عمل على تأسيس (النادي العربي)، بهدف تنشيط الحياة الثقافية في المدينة، وقام بدعوة عدد من الكتاب والمفكرين إلى النادي، من دخل الأردن وخارجه.

وقد دفعه حبه للأدب للعمل في الصحافة، خاصة عندما سكرتيراً لتحرير مجلة الرائد العربي، التي أسسها الصحفي المعروف أمين أبو الشعر، وربما لو أمهله الموت قليلاً لقدم للساحة الأدبية الكثير من الشعر والأدب، لكنه غادرناً باكراً، فلقد استغل وجوده في الكرك أثناء عمله هناك، فخرج في رحلة صيد يمارس فيها هوايته، التي لم يعلم بأنها ستودي بحياته، فلقد رافقه هي رحلته الأخيرة كاتبه في المحكمة، وخلال ذلك خرجت من بندقية الكاتب رصاصة طائشة أنهت حياة هذا الشاعر الشاب على الفور في العام 1952م، وولد ذلك صدمة كبيرة لدى ذويه ومحبيه، فعمره بالكاد يصل للسادسة والثلاثين.

نقل جثمان رفعت الصليبي من الكرك إلى مسقط رأسه السلط، وقد دفن فيها، لكن وجوده القصير في الحياة كان فاعلاً وعميقاً، ومازال يذكر بكثير من الاحترام والتقدير، فلقد تعلم وعمل للوطن والناس، وترك شعراً وأدباً حاضراً في الساحة على قلته ومرور السنوات، التي أبقت ذكراه خالدة بيننا.

هزاع البراري
جريدة الراي
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))