عبد الحليم عباس العواملة ... واجه المتاعب بالمثابرة والإنجاز



لقد أخذ بالأرض والإنسان، منذ تسامت صرخته الأولى في فضاء المدينة المتشبثة بقمم الجبال، القابضة على سحر الجمال الطبيعي، والوقفة على بوابات العابرين منها وإليها، مرحبة بالضيف الذي منذ تطأ قدمه أديمها حتى يصبح من أهل الدار، عليه ما على أهلها، وله مالهم من حق مستحق، تلك في السلط المدينة التي نهضت كالمنارة الجاذبة، منذ أواخر العهد العثماني المتعثر، فشكلت مع مدينة نابلس ثنائية مازال صداها ينمو كشجر الزيتون المباركة، لذا كان عبد الحليم عباس، نتاج مدينة تفوقت على ما عم البلاد من إهمال وسؤ معاملة، متحولة لدار علم متقدم، ومركزاً تجارياً فاعلاً، مما أكسبها دوراً سياسياً، جعلها في بؤرة الحدث العصري، فكانت عاصمة البلقاء، والمدينة الأكثر تطوراً في تلك الفترة، متقدمة على عمان التي كانت أقرب إلى قرية كبيرة، قبل أن تصبح عاصمة الدولة الأردنية الحديثة.

ينتسب عبد الحليم عباس، إلى عشيرة العواملة، إحدى العشائر الرئيسية في مدينة السلط، والتي أنجبت رجالات لعبوا دوراً بارزاً في بناء الدولة الناشئة، منذ مرحلة التأسيس الأولى، فلقد كانت السلط بتركيبتها العشائرية، ذات حظوة كبيرة في البلقاء التي ضمت وسط الأردن، وقد منح موقع المدينة الفريد أبناءها فرصة للتواصل والعمل، وتلقي العلم سواء في الكتاتيب، أو في المدارس الصغيرة المتوفرة، قبل تأسيس مدرسة السلط الثانوية، أول مدرسة ثانوية في شرق الأردن، التي أحدث أثراً حاسماً في تعليم أكثر من جيل من أجيال التأسيس، فلقد ولد عبد الحليم عباس، في ظل الحكم العثماني للمنطقة، في سنواته الأخيرة تحديداً، حيث كانت البلاد العربية، ساخطة نتيجة سياسة التمييز العنصري، وتتريك رعايا الدولة من غير الأتراك، حيث كانت ولادته في عام 1913م، في ظل انعكاس الوضع العام على الناس، فلقد كان القادم من الأيام ينذر بوقوع أحداث جسام، لا يمكن التنبؤ بنتائجها.

عبد الحليم عباس على موعد مع الحزن والمتاعب، حتى قبل أن يتفتح وعيه على تفاصيل الحياة الشائكة، فلم يكن يبلغ عامه الأول حتى فجع بفقده والده، الذي توفي تاركاً الطفل عبد الحليم يواجه المصاعب الحياة مبكراً جداً، ورغم انه حظي برعاية والدته وأعمامه، إلا أن أوضاع الناس العامة لم تكن سهلة، وكانت لقمة العيش تؤكل مغمسة بالشقاء والصبر، لذا لم يجد أمامه من خيار سوى الاعتماد على النفس، منذ أخذت خطواته تدب في أزقة السلط وروابيها، ولعله أدرك بفطرته حجم ما عليه من مسؤوليات قادمة، حتمتها عليه الظروف العائلية والأوضاع العامة، فالتحق بالكتّاب الذي يعد البديل المتاح عن المدرسة الابتدائية، وهذه الكتاتيب يتولى التعليم فيها في العادة رجال الدين من أأمة وخطباء، وليس لها منهاج تعليمي معتمد، يقتصر فيها تعليم الطلبة القراءة والكتابة والحساب، وحفظ سور من القرآن الكريم، وكانت السلط تشتهر بكتاتيبها، التي خرجت عدداً من الطلبة الذين كان لهم شأن كبير فيما بعد.

بعد إنهائه مرحلة الكتاتيب، سعى عبد الحليم عباس، لدخول مدرسة السلط الثانوية، المركز العلمي الأعلى حينها، وقد تحقق هذا الحلم، فأصبح طالباً في المدرسة، و مبديا نبوغاً وتميزاً، وعرف بالتحصيل الدراسي الجيد، وتتلمذ على يد مجموعة من أفضل المعلمين في تلك المرحلة، حيث كان من أساتذته الشيخ نديم الملاح، الذي لاحظ ميله نحو الأدب، ومقدرته في الإبداع الأدبي، فعمل على تشجيعه ورعايته، حتى أنه تبنى نتاجه الإبداعي المبكر، حيث عمل على نشر بعض هذا النتاج في مجلته «الحكمة»، وذلك خلال الفترة من 1932- 1933م، فكان له أثر كبير في حياة عبد الحليم خلال مرحلة الشباب الأولى، عمل على توجيهه نحو الكتابة، وأرشده إلى كيفية تجويد نصوصه المبكرة.

تمكن عبد الحليم عباس، من الحصول على الثانوية العامة من مدرسة السلط، وكان تفوقه يؤهله للتقدم نحو المرحلة القادمة، وبالرغم من أن الثانوية العامة في تلك الأيام، تمكنه من الحصول على وظيفة جيدة، وعلى رأسها العمل مدرساً في المدارس الحكومية والخاصة، لكن عبد الحليم عباس ورغم ظروفه، إلا أنه قرر شد الرحال باتجاه العاصمة السورية دمشق، حيث التحق بمعهد الحقوق وذلك عام 1929م، غير أن الظرف القاسي لاحقه، فلم يتمكن من تأمين ما يساعده الإنفاق على دراسته ومعيشته هناك، مما اضطره لقطع دراسته والعودة للأردن، لكنه حمل انكسار حلمه، وقرر عدم الوقف عند هذه المحطة، فتوجه للعمل بكل ما ملك من حماس وحب للعطاء، تم تعيينه في وزارة المعارف - التربية والتعليم- فعمل مدرساً في المدارس الحكومية، وقد أحب مهنة التدريس، وأخلص لها.

بعد عمله مدرساً لفترة من الزمن، لاحقته الرغبة في التجريب، وتغيير مساره الوظيفي، ولعل تركيبته كمبدع أمتاز بالقلق وعدم الاستقرار، انعكس ذلك على استقراره الوظيفي، فتنقل بين أكثر من وظيفة، حيث انتقل من وزارة المعارف إلى دائرة الجوازات، بعد أن خدم في هذه الدائرة لفترة من الزمن، قرر تركها والانتقال إلى وزارة الداخلية، وكان عمله في هذه الوزارة فرصة جديدة لعمل مختلف، يلتقي خلالها بأناس جدد، وكان طوال هذه الفترة يمارس الكتابة الأدبية، في أكثر من جنس إبداعي، وبعد مرحلة العمل في وزارة الداخلية، سنحت له فرصة الانتقال إلى وزارة الإعلام، وكانت هذه الوزارة الأقرب إلى ما تمتع به من موهبة أدبية، أصبح لها حضورها على الساحة المحلية.

لقد نشط في كتابة المقالات الصحفية، وتوسع في نشر كتاباته في الصحف والمجلات، فلقد نشر في « الحكمة» و»الجزيرة» و»الرائد» وجريدة «الدستور»، وعمل فيما بعد على جمع عدد من هذه المقالات في كتاب «السياسة والأدب» الذي صدر في جزئين، كما أصدر كتابا آخر بعنوان « أبطال العقيدة» الذي ضم مجموعة أخرى من المقالات، ويعتبر عبد الحليم عباس، من المبدعين الرواد في مجال الكتابة الروائية، فلقد اصدر رواية في فترة مبكرة نسبياً، حيث كتب روايته «فتاة من فلسطين» بعد نكبة عام 1948م، التي ضاع فيها الجزء الأكبر من فلسطين، وقد كان لهذا العمل الإبداعي صداه، وتكمن من تركيز الضوء على موهبته في مجال كتابة القصة والرواية، التي جاءت متسقة مع الواقع الثقافي في البلاد.

لقد وزع عبد الحليم عباس حياته بين العمل والكتابة، وقد أصدر العديد من الكتب المتنوعة، منها بالإضافة لما ذكر، «قصة من دير ياسين»، وهي عبارة عن قصة طويلة تعرض لجانب من معاناة الشعب الفلسطيني، وقد أصدرتها وزارة الثقافة فيما بعد عام 1990م، وأصدرت له وزارة الثقافة أيضاً « قصتان من فلسطين»، ونلحظ من إبداعاته المختلفة، الحضور القوي لديه لفلسطين القضية والإنسان، فلقد شكلت وعيه القومي المبكر، وبقيت جرحاً عميقاً يحفر في وجدانه، لذا سخر لها كثير من كتاباته، ولقد نشرت له كتب كثيرة في مجال الدراسات المختلفة، منها «أبو نواس» التي صدرت عن دار المعارف في مصر عام 1946م، و»البرامكة في بلاط الرشيد» صدر في عمان عام 1946م، وكذلك كتاب «البرامكة في التاريخ» 1956م، و»أصحاب محمد» عام 1964م، وغيرها من الكتب المهمة التي مازال يرجع إليها، لما حوته من أصالة في البحث والكتابة، وقد حقق مساحة كبيرة في الساحة الثقافية، ولفت الانتباه إلى منجزه الفكري والأدبي، وتقديراً لهذه المكانة المستحقة، منحه المغفور له الملك الحسين بن طلال شهادة تقديرية عام 1977م، وقد كان لهذا التقدير الملكي، أثره الطيب في نفس عبد الحليم عباس، وضعه في المكانة اللائقة في المشهد الثقافي الأردني، حيث بقي معطاءً حتى لحظاته الأخيرة، عندما توفي عام 1979م، عن عمر من الكتابة والعمل، مقدماً منجز اً أدبياً وفكرياً وطنياً بنكهة قومية وإنسانية، أعطت نتاجه وشخصيته سمة الذِكر الخالد، والسيرة العطرة بالمحبة والعمل الشريف.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))