السلط في العينين ... بقلم الدكتور سليمان عربيات

د. سليمان عربيات
ذاكرة المكان و الزمان و الناس من أكثر الأشياء تأثيرا و التصاقا بالإنسان و ترافقه مثل ظله على صورة أطياف و ظلال و ذكريات تحكي علاقته الحميمة بالأماكن الدارسة أو القائمة, و الأيام الحلوة و المرة و الأهل الطيبين الذين كان يراهم كل صباح و مساء و ما يزال يعيش بينهم. هناك إحساس خفي يربطك بالأشياء المحيطة بك سواء كانت من الكائنات الحية أو الجمادات, و لكل منها لغة خاصة للتواصل مع الآخر. ان ذاكرة الأماكن و الزمان و الناس, أبعد من أن نطلق عليها نوعا من الوطنية, انها تأريخ لعلاقة الفرد بها و إحساسه بها في حله و ترحاله. لا أعرف مدينة أو أماكن بلا ذاكرة, فالذاكرة بالنسبة لها هي مثل النفس للجسد, إذا غادرته مات حالا.

لكل مدينة ذاكرة, و بخاصة إذا كانت مدينة عريقة في موقعها و تاريخها و سكانها. لست أول شخص كتب عن ذاكرة مدينته, فذاكرة المكان و الزمان فن قائم بذاته. أنا أحد الذين عشقوا وطنهم الكبير و الصغير, فكتبوا ما كتبوا عن عواصم الوطن العربي و لكن مدينتي السلط كانت دائما في الذاكرة و في العينين و في القلب. من رحم أمي خلقت و على تراب السلط ترعرعت مثل بادرة القمح و في مروجها الخضراء رافقت الفراشات في فرحها و طيرانها و على أشجار غابات البلوط نصبت أمي لي أرجوحة و هناك سمعت زقزقة العصافير تصل إلي مثل همسات الماء الرقراق. مشيت فوق دروبها الترابية و حصاها و ارتقيت جبالها و هبطت إلى وديانها, و سكنت الخيام و سهرت مع النجوم قناديل لياليها و انتظرت موسم المطر القادم مع أهلي الصابرين و مشيت وراء "الغياثات" مع أطفال القرية الى قبور الصالحين.

مدينة السلط, مثل معظم المدن الأردنية, الأماكن و الناس و التطور على محور الزمن. في الزمن الغابر أطلقوا عليها "سالتوس" أي الغابة و في الزمن الراهن:" أم الأوائل": مدرسة السلط الثانوية و مؤسسة الاعمار و الوثيقة الشعبية و هي الأم الرؤوم لأبنائها عندما جاؤوا إليها طلبا للعلم من كل مدينة أو قرية تحتضنهم في كل مساء. كان أبناؤها من جميع الأردن من خريجي مدرستها أم المدارس أوفياء لها, شدتهم إليها ذاكرة المكان و الزمان و الناس. كتبوا جزءا من ذاكرتهم في سيرهم الذاتية, أو في دفتر مطعم "العمد" اسماؤهم منحوتة مثل الرسم على صفحاته و الوشم على سواعد أبنائها.

السلط الغالية, تحمل ذاكرة جمعية, فهي مدينة المهاجرين و الأنصار و هي مثل الكرك هواها غربي و هي كنانة الجند البواسل في الجيش العربي. و من السلط و عبر واديها, مرت سرايا و كتائب الجيش العربي و فيالقه لنجدة الأهل في فلسطين. و من بين أبنائها سقط الشهداء, كما سقط شهداء من كل مدينة و قرية أردنية عندما تداعوا من عمق بواديها.

في داخلي ما زال ظل المكان حاضرا, و لا أستطيع أن أرى سواه فهو في عيني مثل صورة ثابتة معلقة على حائط الذاكرة: القلعة و سوق الحمام و سوق الدير و الجامع الكبير و كنيسة الخضر عين الدواب و عين النساء و عين الرجال التي كنت أدلف إليها مع أترابي و نستحم دون أن نخلع ملابسنا و نخرج إلى الشمس مثل العصافير المبللة لتجف أثوابنا و سوق الإسكافية و الساحة و الحسبة و سوق الحلال الأسبوعي. في ذاكرتي "السرايا" أو دار الحكومة و مقهى نويران و مكتبة البسطامي و الحلاق شنيور و عين الجادور و عين حزير و مقامات يوشع و شعيب و أيوب رضوان الله عليهم, و الكتاتيب حيث تعلمت القراءة و الكتابة و جمعت الأحرف لتشكيل كلمة أو عبارة. و في مدرسة اللاتين تلقيت جزءا من تعليمي و أبجدية حوار الأديان و في مدرسة السلط الثانوية, تلقيت بقية تعليمي الثانوي و تدرجت ثقافتي و تكويني السياسي على أيدي معلمين وطنيين أكفاء عرب و أردنيين, حيث لم تغب عن بالنا هموم وطننا الكبير و الصغير.

كنا ننطلق في الصباح إلى مدرسة السلط الثانوية عن طريق حي "الجدعة" أحيانا, فما زالت في ذاكرتي "قوارير" الريحان و الخبيزة الشامية و الياسمين المطلة بأعناقها و ألوانها الزاهية من النوافذ, و تطفئ ظمأها الحسان المحصنات من فتيات الحي.

هذا هو المكان, أما الزمان بالنسبة لي فقد امتد من منتصف القرن الماضي أو قبله بقليل حافظا ذاكرة المكان و الناس بتقاليدهم و عاداتهم و تراثهم و موروثاتهم ... تاريخ القبائل و الرجال و فروسيتهم في ذلك الزمان الجميل منذ مئات السنين. مدينة السلط "عنيدة" و مقاومة للتغيير السريع رغم أنها مؤمنة بالتقدم و لكن كان لأهلها "سجاياهم" مثل بقية الأردنيين و هي رفض الاغتراب الذي لا ينسجم مع القيم الراسخة أو مفروضا عليها فأفقدها كثيرا من ملامحها التاريخية و حتى الإنسانية.

أطلقت عليها كنايات سيدة المدن و حارسة النبع المقدس و آخر قلعة مقاومة للعولمة و هي عصية على الاختراق, إلا أنها لم تسقط و لكنها في النهاية ركبت قطار التغيير و دخلت عالم التكنولوجيا و المعرفة و رضيت بالتغيير الايجابي رغم العجز في الوفاء بالاستحقاقات المادية و كلفتها لمواكبة هذا التغيير بمساعدة الحكومات المتعاقبة.

السلط مثل بقية المدن التاريخية أو المعاصرة في الأردن, فهي مدينة الثقافة الأردنية و هي مصنع للرجال الأوفياء منذ تأسيس الدولة الأردنية في عشرينات القرن الماضي و هي أم الأوائل. السلط مدينة "ولود" مثل بقية المدن الأردنية و انتماء أهلها للوطن أولا و لمدينتهم و جوارها, حيث لا يكون هناك تناقض بين مفهوم الانتماء للوطن و لمكونات الوطن و مفرداته.

تعرف المدينة الكبيرة بتاريخها و انتماء أهلها و أصالتها و معاصرتها و قوة إرادتها, و رؤيتها للمستقبل بعيون مثل "عيون اليمامة" و هكذا هي مدينة السلط.

ان حب الوطن لا يكون بمقدار ما يقدم لنا أو يملك من مخزون موردي و ثروات, انه أكبر و أغلى من ذلك بكثير, انه أضرحة الشهداء و التاريخ و التراث و التراب و الرمال التي تحضنك, انه الهواء و الماء, انه الكرامة و الحرية و نحن لا نريد أكثر.
تعليقات (فيس بوك)
1تعليقات (بلوجر)

1 التعليقات:

  • غير معرف يقول :
    17 نوفمبر 2011 في 12:43 ص

    مقال رائع
    هذا احساسي ايضا" اتجاه مدينة السلط
    لقد زرت عشرات المدن العربية واﻻجنبيه ولكني رغم جمال هذه المدن لم تترك اي من هذه المدن في ذاكرتي الكثير كما تركت مدينة السلط مسقط رأسي .
    مدينة السلط من اروع المدن بأهلها وجبالها ووديانها ، في السلط الكرم والعز وفبها احلام طفولتي .

    شكرا على هذه المدونة واتمنى لك كل التوفيق

    العزام
    الكويت

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))