أنا سلطي .. من عيرا ويرقا

في أواخر الثمانينات وأنا على مقاعد الدراسة في الجامعة الأردنية كنت أحب الجلوس للدراسة في مكتبة الجامعة، وكنت أعشق الدقائق الأخيرة التي تسبق إطفاء الأنوار وإغلاق المكتبة، وكنت وقتها أرى الطرد عيبا وإهانة في حق الإنسان إلا إذا كان من مكان مقدس كالمكتبة، وحرصت دوما أن أكون آخر المطرودين منها، وكان ينافسني في ذلك الشرف ضابط في الأمن العام أدمن على تذوق حلاوة تلك الأوقات الجميلة (لحظات محاولة موظفي المكتبة إخراجنا منها)، وكنت أتبادل وإياه أطراف الحديث عن بحوثه وكتبه ودراساته المتعلقة بالتاريخ والأنساب، ذلك هو المؤرخ والنسابة الدكتور أحمد عويدي العبادي.

سرت بخاطري تلك الذكريات وأنا في جلسة عائلية مع شقيقي الأكبرالطبيب الأخصائي والنسّابة التاريخي الدكتور خالد الخريسات، وقد مازحته بحضور نسيبنا زوج ابنته المنتسب إلى عائلة البخيت من عشيرة الشياب إحدى عشائر عبّاد من ماحص، وقلت له كيف تزوج ابنتك السلطية سليلة الحسب والنسب الحجازية العدنانية من رجل من بني عبّاد من قحطان الذين تحالفوا مع بني صخر في القرن التاسع عشر ضد عشائر السلطية، ولولا نمر بن عدوان الذي ناصر عشائر السلط لما تمكنوا من صد زحفهم؟! هل نسيت التاريخ والثارات –مازحا طبعا-؟!

قال لي شقيقي النسابة: يا سيدي إن عشائر عبّاد الذين تعود أصولهم إلى بني طريف من قبيلة جذام القحطانية اليمنية قد سكنوا الأردن والشام منذ العصر الجاهلي ما قبل الإسلام، وقد التحق بهم من التحق بعد سقوط الأندلس وزمن الفاتح صلاح الدين الأيوبي، أما عشيرتنا فأول عهد قدومها من الحجاز إلى الأردن لا يزيد عن مائة وسبعين عاما، وكذلك عشائر السلط الأخرى التي قدمت من الجزيرة العربية فلا يتعدى تاريخ قدومها عن ثلاثة قرون، حيث لم تكن السلط إلا القلعة التاريخية والقرى حولها في ذلك الوقت، فهم الأصل ونحن الضيوف عليهم.

ويربط البعض حساسية العلاقة التاريخية بين عشائر السلط وعشائر عبّاد بالمقالة الشعبية المأثورة "عبّاد يا نزّالين الوعر .. ذبّاحين الجعر" إشارة إلى وعورة مضاربهم وكرمهم العربي الأصيل، بأن عشائر السلط استأثرت بسهل الأرض وهضابها العالية واضطرت عبّاد إلى سفوحها ووعرها، وقد يكون هذا صحيحا من الناحية التاريخية، ولكن ما يعنينا من هذا كله تحليل ما يحدث اليوم من مناوشات مؤسفة بين الحين والآخر بين شباب العبابيد وشباب السلط في جامعة البلقاء والجامعات الأخرى والتجمعات الشبابية المختلفة ثم محاولات توسيع هذه الإشكاليات وامتدادها خارج أسوار الجامعات لتشكل خطرا حقيقيا على نسيج المجتمع الأردني المنسجم والمتماسك والآمن والذي يعيش في استقرار يغبطنا عليه كل من يحيط بنا من دول الجوار القريب.

في ظني أن العوامل التاريخية ليست ذات أثر كبير فيما يحدث، بل أرجع السبب الأساسي إلى العقلية الحكومية الأمنية التي أمعنت تمزيقا وتشويها في عقليات أبنائنا من الطلبة الجامعيين على مدى عقود وسنوات وأحيت فيهم النزعة العشائرية والقبلية تحت غطاء الوطنية، مبتغية بذلك إحياء تيار وطني طلابي يتصدى للمد الفكري الإسلامي الذي سيطر على الجامعات تماما في عقدي الثمانينات والتسعينات، فكان لهم ما أرادوا ولكن بعد انفلات مارد  النزعة الجاهلية العصبية التي تجذرت وفرخت نزعات أكثر تعنصرا وقبلية فصار التيار الوطني في الجامعات الأردنية تيارات متنافسة ومتنافرة ومتصارعة على أساس مناطقي وعشائري، وأصبح العنف الجامعي في العقد الأخير "ماركة مسجلة" للجامعات الأردنية، وباتت "هوشات" السلطية والعبابيد وبني حسن وبني صخر والعدوان –مع محبتي واحترامي وعشقي إلى حد القداسة لكل عشائر الأردن وتاريخها وترابها وتراثها وأنا واحد منهم وأصغرهم- أصبحت هذه "الهوشات" لا تخلو منها جامعة أو كلية أو انتخابات طلابية.

نعم نريد "تيارا وطنيا" وسطيا حقيقيا في الجامعات الأردنية، ونريد تيارا إسلاميا دون ضغوط ولا تهديدات بالفصل والحرمان من المكرمة والاعتقال، ونريد تيارا يساريا، ونريد تيارا قوميا، ونأمل أن يكون الشارع الطلابي الجامعي مثقفا وواعيا ومسيسا ومفكرا ومنتميا لتراب الأردن ووفيا لدماء شهداء الجيش العربي على أسوار القدس ومتفاعلا مع الحراك الإصلاحي الداخلي ومع جميع القضايا القومية والإسلامية والعالمية، كما أراده جلالة الملك وعبر عن ذلك صراحة في أكثر من لقاء حميم مع أبنائنا شباب الجامعات.
 
وأخيرا .. كم أتمنى أن أسمع من جيراننا الأقربين –العبابيد- الذين وصى الله تعالى بهم فقال: (والجار الجنب والصاحب بالجنب) أن يقولوا: (نحن عبابيد سلطية)! عندها سأستذكر سيرة الإمام الشافعي رحمه الله والذي كان شريفا حجازي النسب غزيّا شاميّ المولد عراقيّ المذهب مصريّ المقام والختام، وسأشتري أو أكتري دارا في (عيرا) وبستانا في (يرقا) وأقول بكل فخر (أنا سلطي .. من عيرا ويرقا).

الكاتب : المهندس هشام عبد الفتاخ الخريسات
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))