بهجت سعيد الصليبي .. العمل المخلص والمحبة الصافية




كان لرجالات الأردن الرواد، دور كبيرفي بناء الحركة الوطنية محلياً، بعيداً عن التبعية الخارجية، أو الولاء لأفكار مستوردة، فلقد اتصفت هذه الحركة بمنبتها الوطني، وتوجهاتها القومية المعتدلة، حيث تشبعت بنهج ومبادئ الثورة العربية الكبرى، فحفروا حضورهم في أحداث المنطقة، منذ أندغم أبناء العشائر في صفوف جيش الثورة العربية الذي قارع الأتراك في معاركة حامية الوطيس، حتى تمكن من دخول دمشق وإعلان قيام الحكومة العربية لأول مرة منذ ما يزيد عن أربعمائة عام.

استمر تقدمهم شمالاً حتى تجاوزوا مدينة حلب، لذا فأن النشأة القومية للحركة الوطنية المناهضة للاستعمار الغربي، انعكست على التوجهات والمبادئ التي قامت عليها إمارة شرق الأردن، فكانت بحق نواة لدولة عربية، حققت الملاذ الآمن للمناضلين ومن المناطق العربية كافة، وحملت حكوماتها سمة الحكومة العربية، أكثر من كونها حكومة محلية، وقد فرض هذا الواقع أعباء كبيرة على كاهل الدولة الناشئة، لكنها ما نقضت عهدها ولا نكثت بوعدها، وبقيت حتى اليوم الملاذ والملتجأ، تنهض بواجباتها القومية، دون أن تفكر بمقابل ما.
يعد الشيخ بهجت سعيد الصليبي، أحد فرسان تلك المرحلة، وهو الذي نشأ في بيت زعامة معروف، حيث كانت السلط تقوم بدور حيوي في قلب الأردن بحراكها التجاري والديمغرافي، ودورها السياسي منذ أواسط القرن الثامن عشر، وزعامتها للبلقاء التي ضمت عمان والزرقاء ومادبا، فقد كان سعيد باشا الصليبي والد الشيخ بهجت، زعيماً عشائرياً معروفاً له مكانته الكبيرة داخل البلقاء وخارجها، ويعد من أبرز رجالات السلط، فقد لعب دوراً بارزاً منذ أواخر الحقبة العثمانية، وحتى ما بعد مرحلة التأسيس الأولى، وتعد مضافته بمثابة صالون سياسي وطني، يجتمع فيه رموز الأردن، ويتقاطر إليه أصحاب الحوائج، وطلاب المساعدة، في حل نزاع أو مشكلة، أو طلب عون مادي.

تلك هي البيئة التي ولد ونشأ فيها الشيخ بهجت الصليبي، حيث تجمع الروايات على أن ولادته كانت عام 1910م، وهو العام الذي شهدت فيه الأردن أعظم هبة في وجه الظلم في جنوب بلاد الشام، عندما اندلعت ثورة الكرك، تلك الثورة التي هزت الباب العالي في الأستانة، فحركت طوابير العسكر المدججة بالمدافع، لقمع الأهالي العزل، فلقد ولد بهجت الصليبي في بؤرة الغليان، والمنطقة تتهيأ لخوض نتاجات الأحداث التي ظهرت نذرها في الأفق القريب.

تربى الشيخ بهجت بكنف والده سعيد باشا، ونهل من مدرسته في الحياة، ، حيث أحب الفروسية منذ صغره، وعشق الخيل العربية، فكان فارساً لا يشق له غبار، فلقد تشرب كل هذه الصفات من والده الذي لم يكن مجرد شيخ عشيرة، بل كان من رجالات الأردن المشهود لهم بالنشاط الوطني والسياسي، ومن الذين عاضدوا الأمير عبد الله بن الحسين في تأسيس الإمارة، وتأكد دوره العشائري على نطاق واسع، وكان قاضياً عشائرياً له شهرة واسعة، وعرف عنه بنائه لشبكة علاقات واسعة، ولاشك أن بهجت الصليبي أفاد من كل عناصر هذه البيئة الغنية، وقد تلقى أساسيات التعليم في الكتّاب، حيث لعبت الكتاتيب دوراً مهماً خلال مرحلة الإهمال العثماني، وندرة المدارس في مدن وبلدات شرق الأردن، فكانت الحياة الخاصة والعامة هي المعلم الحقيقي، لجيل وربما أكثر، فكانت تعد الجامعة المتاحة، والتي لا تقف عند مرحلة محددة.

وكانت للمدرسة الرسمية التي التحق بها في السلط دور في بناء شخصيته وتفتح وعيه الخاص اتجاه القضايا العامة، ويعد من الطلبة المتميزين سلوكاً وتحصيلاً، وقد شارك خلال دراسته بالمدرسة في أول فرقة للكشافة في الأردن، فلقد كان محباً للمغامرة والاعتماد على النفس، ومن حسن حظه أنه كان الابن الأكبر لسعيد باشا، والابن البكر يحظى دائماً بفرص أوفر في مرافقة والده، والتعلم منه من أصدقائه، وهذا ما وفر له من فرص جعلته يتميز بالحكمة والفطنة منذ بواكير شبابه، وقرن ذلك بورعه وتقواه، مما جعله مقرب من الناس، يتمتع بحب الجميع، وقد برز كصاحب رأي سديد، واستطاع أن يثبت براعته في مواجهة الصعاب، والتصدي للمشاكل والقضايا الشائكة، وحلها ببراعة لفتت انتباه القاصي والداني، وقد توسع دوره العشائري داخل عشيرة الفواعير وفي محيطها، نتيجة انشغالات والده بالشأن العام، واستيلاء السياسة على مساحة كبيرة من حياته، فملأ بهجت الصليبي الفراغ وهو في سن الشباب.

تمتع الشيخ بهجت بشعبية كبيرة أخذت بالتزايد يوماً بعد يوم، وقد بلغ الأمر حداً دفع بمجموعة من أبناء عشيرته، للطلب من سعيد باشا أن يعلن أبنه الأكبر بهجت شيخاً للعشيرة، نظراً للأعباء الكبيرة الملقاة على عاتق الباشا، مما جعله منشغل بقضايا الوطن، والأحداث في البلاد العربية، وهذا سيمكن أبنه بهجت من خدمة العشيرة، وتخصيص وقته لحل قضايا ومشاكل أبنائها، وقد تمكن الشيخ بهجت من جمع صفات الزعامة في شخصيته بشكل لافت، فقد عرف بالحزم والقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة دون تردد، فكان صاحب مواقف رجولية صارمة، وتميز بالغيرة على المصلحة العامة، وتقدير دور الثوار والمناضلين من أبناء السلط أو من المناطق الأخرى، وأسهم في دعم الثوار في فلسطين بمختلف الطرق، وطالما اعتقد أن الدفاع عن أي بقعة من الوطن العربي، هو دفاع عن الوطن، وأن شرف الدفاع عن فلسطين واجب على كل مسلم وعربي، لذا لم يتوان عن القيام بواجبه بالمساهمة الفعلية والدعم المادي وتزويد الثوار بما يتوفر من سلاح، فكان من رجالات السلط الثوار من أمثال عبد الرزاق أبو هزيم وأحمد النجداوي.

عاضد الشيخ بهجت والده سعيد باشا في معظم الأحداث والقضايا، وقد رافق والده لحضور الصلحة العشائرية بين عشيرتي بني صخر وبني حسن في الشام، وهي الصلحة التي حضرها عدد كبير من رجالات الأردن، وكان بهجت على معرفة واسعة بأحوال الناس في البلقاء والسلط خاصة، ويذكر أنه لما سأل الأمير المؤسس عبد الله بن الحسين، سعيد باشا عن أحول الناس في السلط، فأجاب سعيد باشا الأمير بقوله: إذا سألتني عن حالي أجبتك، أما عن حال أبناء السلط فأسأل بهجت فهو أعرف بأحوالهم، وهذا يؤكد قربه من أهالي مدينته، وثقة والده به في تحمل المسؤولية الاجتماعية والعشائرية بنجاح، ولم يأتِ كل هذا إلا بعد أثبت بهجت مقدرته النهوض بواجباته بتميز ومحبة.

لم تحل مسؤولياته المتعددة من ممارسة نشاطاً وطنياً، تميز بالطابع السياسي المعارض للمعاهدة الأردنية البريطانية، وبالتالي أسهم في تأسيس الحركة الوطنية إلى جانب والده، وعدد من رجالات الأردن من جنوبه ووسطه وشماله، حيث نتج عن هذا الحراك عقد المؤتمر الوطني الأول والثاني والثالث، وقد تحول المؤتمر إلى أول حزب سياسي في إمارة شرق الأردن، وعارضت بريطانيا توجهات الحركة الوطنية الأردنية، ونتج عن ذلك أن نفي الشيخ بهجت ومع عدد من رموز الحركة إلى الكرك والعقبة، لكن هذا النفي لم ينل من عزم هؤلاء الرجال في تغيير أو تعديل المعاهدة لصالح الأردن، وهذا ما حدث في فترات لاحقة، حتى نالت الإمارة الاستقلال الكامل عام 1946م، باسم المملكة الأردنية الهاشمية.

توطدت مكانة الشيخ الصليبي مع مرور الأيام، حتى أصبح أحد أبرز الشخصيات الوطنية، وامتد نشاطه العشائري والسياسي داخل البلقاء وخارجها، وقد حظي بالثقة الملكية عندما تم اختياره ليشغل منصب رئيس القضاء العشائري في الديوان الملكي العامر، وقد دل ذلك على قدراته الفريدة ومكانته التي تجازت مدينة السلط، ونال خلال سنوات عمره محبة الناس الصادقة، وتقديرهم الكبير لدوره في خدمة الوطن والنضال في سبيل قضايا الأمة، وعمله الدائم لخدمة أهله أبناء وطنه، وإصلاحه لذات البين، وحيلولته دون وقوع مشاكل وصدمات قد لا تحمد نتائجها.

في عام 1977م توفي الشيخ الصليبي، وقد فقدت الأردن بموته رجلاً وطنياً، تميز بالإخلاص والولاء، والعمل الدءوب الصادق، وخرج في تشييع جنازته، كبار رجال الدولة، وشيوخ ووجهاء الأردن، من مختلف المدن والبلدات والبوادي، وقد رثاه عدد من الشعراء بقصائد بقيت حاضرة في وجدان وأذهان الناس حتى اليوم، كما هو حضور هذا الفقيد الكبير، الذي لن تنطفئ شمعة ذكراه في يوم من الأيام.
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))