من ذكريات زمن الطفولة الجميل

أذكر قبل سنين ، عندما كنت أسير ذات ليلة صيف في احد شوارع "روما" بصحبة الصديقين كامل محادين ومصطفى حمارنة ، وكانت الساعة حوالي الثانية صباحاً ، وكنا لتونا قد انتهينا من تناول طعام العشاء في احد المطاعم العريقة على أحد أرصفة المدينة المزدحمة بالسياح والعاشقين الذين لا يخبئون غرامهم عن عامة الناس متمثلين حياة العشاق من أجدادهم ومن الفنانين الذين رسموا أجمل صورة لإمرأة في العالم (الموناليزا) وأقاموا تماثيل لآلهة الحب الأسطورية "ونوافير" للحب يرتادها العشاق من أحفاد "روميو وجوليت" وعمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة.

في هذا الجو المعطر بأنفاس العشاق وعبق التاريخ والفن ، التفت إلي مصطفى وبجدية وسألني: لماذا لا تكتب سيرتك الذاتية؟ لقد وضعني في لحظة الدهشة الموجعة ، أجبت: وهل تعتقد بأن سيرتي تستحق عناء الكتابة ، وماذا أنجزت حتى الآن لأقوله للناس؟ كنت أعرف سبب سؤاله ، ففي لحظة ما ، وفي "بوح" صادق تحدثت عن حياتي وصراعي مع الدنيا بلغة جميلة درامية النص وبعمق ، وعندها تناثرت الكلمات من فمي وقلبي مثل ثمار الكرز وأعتقد بأنني أو لربما "بكيت" لا لضعف فيَّ ولكن للشعور العاطفي الغلاب في حالة من اللاوعي. لم يكن كامل حيادياً ولكنني اكتشفت فيما بعد أنه سجل الكثير من عباراتي في دفتر مذكراته "الملون مع رسومات موحية من ذاكرة المكان".

وبعدها ، بدأت أفكر في كتابة مذكراتي أو رحلة العمر الخصبة من أيام الطفولة وحتى مرحلة متأخرة. وجاءت اللحظة الحاسمة ، فقد كنت في طريقي إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليلة عيد الميلاد ، وفي أثناء الرحلة بين عمان الغالية ونيويورك ، وطائرة الملكية تحلق في فضاءات لا نهائية الارتفاع والأفق ، كنت أطل عبر نافذة الطائرة إلى الفضاء الخارجي ، كنت أشعر بأنني أسافر في عالم النجوم ولروعة المشهد ، اعتقدت بأنني أستطيع لمس النجوم الجوالة في سماوات هذا الكون ، سبحان الخالق القادر الرحمن الرحيم. قررت في تلك اللحظة أن أكتب العبارة الأولى "بعد أن توكلت على الله" ومنذ تلك السنوات ، مرت بي تجارب كثيرة خاصة وعامة مؤلمة ومفرحة. وبدأت بالرجوع إلى ذاكرة الزمان الطفولي عندما كنا مثل الفراشات نركض في حقول القمح ومروج الزهور البرية. وكنت بين الفينة والفينة أعود لكتابة أجزاء متقطعة من سيرتي الذاتية إلا أنني لم أضع صيغة متكاملة لها رغم أن الزمن يداهمنا ولا يحتمل التأخير.

شدني الحنين وبجاذبية وجدّ ثرّ من الذكريات إلى مرابع الطفولة حيث يقضي أهلي الطيبون من عشيرة العربيات وجيرانهم من قبائل السلط الكريمة صيفهم وربيعهم في مناطق المغاريب والطف وربوع الهوى ، وهي مناطق تقع على بعد عشرة كيلومترات غرب السلط وتطل على الضفة الغربية ومدن أريحا والقدس ونابلس. وهذه الأسماء الجميلة ورثناها عن أجدادنا ولكننا لم نقم بواجبنا تجاهها عندما أخذتنا المدن والحواضر وتوارينا في الزحمة التي لا ترحم ولا تعرف الحنان وصنعنا منها (موارس) ليتم بيعها بثمن بخس تحت ضغط الحاجة والعوز.

المغاريب ، هي مصيف وربيع أهلي ، زرعوا فيها كروماً غناء وأشجار التين والزيتون وزرعوا أرضها بالقمح والتبغ والبطيخ ، وفيها السهل والجبل ، السهل الذي كان أقربائي يبنون فيه خيامهم "المسوحبة" على امتداد سهل "أم زيتونة". كان أصدقاء والدي وأقاربه ينصبون خيامهم "بيوت الشعر" محاذية لبعضها ، ويقضون سهراتهم في أدوار متبادلة والاستماع إلى الأشعار النبطية ودق المهباش وشرب القهوة العربية. ولكنهم كانوا يفضلون السهر في "شق أبو إبراهيم" رحمه الله خليل أبو حجر وهو رجل متأنق في لباسه وحديثه المتميز ، لا يستطيع شخص مقاطعته إذا بدأ بالكلام. وكان آخرون من أقاربي بينهم "أبو جميل - أحمد السالم" رحمه الله وكان صياداً ماهراً للطيور البرية وبينه وبين والدي منافسة حادة نحو فنون الصيد لطيور الحجل والحمام والشنار.

كان أبناء قبيلتي شديدي التعصب لجذورهم حيث تذكر المصادر عن عشائر الأردن بأنهم ينتسبون إلى قبيلة شمر من طي القحطانية ، كما ذكر دولة عبدالرؤوف الروابدة في إصداره الجديد "معجم العشائر الأردنية" ولهذا ساد بينهم الفخر بأصلهم وشاع الشعر النبطي وبخاصة شعر شمَّر في حروبهم الطويلة في حائل والجزيرة العربية.

وأما الطف ، فهو امتداد جبلي يمتد عشرات الكيلومترات من "طف يوشع" إلى "طف المغاريب" ثم "طف الطرازين" وجميعها تطل من مشراف أو مرقاب عالْ على غور الأردن وجبال فلسطين. أما ربوع الهوى فإن دلالته واضحة في مسماه فهي ربوع وهو مستقبل للهواء العليل الذي يأتي نقياً من الغرب حتى تحس به وكأنه عبق من نسائم البخور ، وربوع الهوى يضم "المطلات" الخاصة بمناطق المغاريب والطرازين. ولربما "حبايل الجاج" وهي مسميات محلية يتداولها أهل المنطقة.

إنني مهما جمعت من الذاكرة عن هذه المناطق الغالية ، فأعتقد بأن ذاكرة الزمان والمكان والناس تغطي جزءاً عزيزاً من حياتي. وكلما عدت إلى المكان الذي تغيرت معالمه الطبيعية ، أشعر باقتراب شديد. كنت في مرحلة ما من شبابي أيام المدرسة ، أجلس تحت دالية كرم العنب أو زيتونة أو شجرة تين ، وبخاصة مع الغروب ، أراقب الشمس وهي راحلة نحو مضجعها فوق جبال فلسطين وعندما تغرق أشعر بالضيق من إرهاصات الغروب ، فأكتب ، في سويعات الاحتضار والغروب ، عبارات رمادية يجلّلها وشاح من الحزن والشعور بالأفول وأغرق في تفكير لم أستطع تفسيره آنذاك وحتى اليوم ولكنني ما زلت أحس به كلما مررت بالمكان وجاءت سويعات الغروب.

د. سليمان عربيات
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))