المعارضة و خطوطها الحمراء بقلم د. سليمان عربيات

تنتعش المعارضة في الدول الديمقراطية أو السائرة نحو الإصلاح من أجل الديمقراطية و ما تعنيه هذه المفردة. والمعارضة قد تكون مكوناتها أحزابا سياسية أو مجموعات لها مصالح مشتركة أو أفرادا من النخب الفكرية و السياسية, و تكون المعارضة أكثر قبولا في الديمقراطيات العريقة, حيث أنها تشكل رقابة صارمة على الحكومات و خاصة إذا كانت ممثلة في السلطة التشريعية البرلمانية, التي تمكن من حفظ التوازن بين السلطات الثلاث وعدم استقواء إحداها على الأخرى. إن المعارضة قد تصبح الأكثرية في المجلس النيابي و بذلك يكون من حقها تشكيل حكومات برلمانية و تحقق بذلك ما يسمى بتداول السلطة. و في الدول الديمقراطية تكون للأقلية المعارضة حكومة “ظل” عندما نكون خارج السلطة التنفيذية. 

إننا هنا معنيون بالمعارضة في دولة ديمقراطية بمضمونها السياسي, أو السائرة نحو الإصلاح الشامل. فالعلاقة بين المعارضة و الدول الديمقراطية, غيرها عن العلاقة بين الدولة المستبدة و المعارضة, فهي في الحالة الأولى محكومة بالقوانين وبالأعراف التي يقرها الجميع. بينما هي في الحالة الثانية تخضع لآراء كل طرف في مفهومه لطبيعة الحكم, و هي حالة غير مستقرة أو متوازنة كما في جميع الأنظمة الشمولية. 

و نحن في الأردن أقرب إلى الحالة الأولى, حيث أن المعارضة السياسية ممثلة بالأحزاب الوطنية, كانت جزءا من نظام الحكم منذ قيام الدولة الأردنية, و تأسيس المجلس التشريعي الذي استطاع إسقاط أكثر من حكومة و عقد المؤتمرات الوطنية و معارضة المعاهدات. و بعد وضع أول دستور أردني و قيام المؤسسات و في مقدمتها مجلس الأمة (الأعيان و النواب), لم تتأثر المعارضة, سواء في شكلها التقليدي أو المعاصر, إلا أن بعض الأحزاب الوطنية قد حلت نفسها و قامت أحزاب و جمعيات قومية أو دينية. و هذه الأحزاب أو جلها شكلت معارضة و بعضها كان ممنوعا من العمل في العلن. و قد ازدادت قوة الأحزاب بعد النكبة الفلسطينية عام 1948م, و بلغت أوجها في الستينات من القرن الماضي و شهد العالم العربي عدة انقلابات عسكرية (ثورات) و كان مخاضها ما نشهده اليوم و ما أطلقنا عليها ثورات الربيع العربي. 

كانت الدولة الأردنية عرضة للخطر في تلك الحقبة و خاصة عندما أصبح المد الناصري و المد القومي يحتلان جبهة عريضة داخل أنظمة الحكم و الثورية. إلا أن هذا لم يمنع الأحزاب القومية من خوض الانتخابات النيابية في الأردن و إن لم تتمكن من الحصول إلا على مقاعد نيابية محدودة. و في أثناء ذلك اضطرت الدولة الأردنية الى ضرب هذه الأحزاب و استمر تحالفها مع الحركة الإسلامية التي كان بمقدورها إقامة معسكرات تدريب وحمل السلاح في مناسبات معينة و ربما كان الهدف منها, الوقوف أمام تعاظم قوة الأحزاب القومية و اليسارية. نحن اليوم نقف أمام مشهد ديمقراطي جديد, و دولة مدنية معاصرة قوامها, كما يجب, القانون و المؤسسات و في عالم بلا حدود قوامه المعرفة, لانهائي يطارد الكواكب و النجوم. وسط هذا المشهد تتفاعل مكونات المجتمع و مؤسسات الدولة في سعيها نحو الأفضل. أعود في هذا المفصل من مداخلتي للحديث حول المعارضة. و أجد من المفيد أن أسجل قناعتي و هي أن الموالاة و المعارضة تشكلان البنية التحتية لنظام الحكم و أن الموالاة لا تعني الحكومة فقط و المعارضة لا تعني من هم خارج الحكومة. إن الحكومة لا تمثل الموالاة, إلا إذا كانت حكومة برلمانية فهناك المعارضة الفوضوية التي لا تقبل بأي نوع من أنواع الحكم و هي ما أطلقت عليها المعارضة العدمية. 

دعنا لا نختلف منذ البداية, على نوع نظام الحكم, فهو كما نص عليه الدستور: نظام نيابي ملكي (وراثي). لقد حدثت تطورات جذرية إصلاحية من أجل حقوق المواطن. و هي في تسلسل: إعطاء المرأة الحق في الانتحاب و الترشح و إدماجها في الحياة العامة و عودة الحياة البرلمانية التي تعطلت بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967, و فك الارتباط القانوني و الإداري بها, بناء على طلب من الفصائل الفلسطينية و ممثلها الشرعي و الوحيد و دول الجامعة العربية, و صدور قانون للأحزاب و للانتخابات النيابية و إلغاء القوانين العرفية, وصولا إلى الإصلاح الشامل المتضمن تشكيل لجنة ملكية لتعديل الدستور و لجنة الحوار الوطني لوضع قانون للانتخابات و قانون للأحزاب. كان سقف الحرية عاليا, أثناء الحوار, توصل إلى إجماع وطني أو توافقي في حده الأدنى ومن الجدير بالذكر أن تشكيل لجنة الحوار ضم ممثلين عن جميع المعارضين, باستثناء ممثلي الأخوان المسلمين الذين قاطعوا اللجنة, و إن كان موجودا من كانوا منهم ممثلين للنقابات الذين آثروا البقاء في لجنة الحوار. 

يمكن تقسيم معارضة المشهد الحالي إلى ممثلي الأحزاب الإسلامية و في مقدمتهم الإخوان المسلمين و عدد من الأحزاب اليسارية و القومية وحركات الإصلاح التي تقودها رموز وطنية و حركات الشباب و التواصل الاجتماعي. و خارج هذه المعارضة أفراد معارضون متطرفون في أطروحاتهم. إذا قبلنا بهذا التقسيم المبسط للمعارضة, فما هي خطوطها الحمراء؟ لقد حاولت الحكومات أن تضع خطوطا حمراء للمعارضة, بناء على القانون. و من جانب آخر كان هناك تصريحات من صاحب الولاية بأن الحرية سقفها السماء. و في تصوري بأن هناك خطوطا حمراء بين السماء و القانون في بعض الظروف. إن جميع المعارضة متفقة على موالاتها للنظام و التمثيل بجلالة الملك المعظم و تقول بالإصلاح وهو ما يقود جلالته. 

و في بعض الأحيان, و خاصة بعد ثورات الربيع, حدث تطور في شعارات الحركات الإسلامية و تجاوزات للخطوط الحمراء أثناء مسيراتهم و بخاصة عند ظهور شبانهم بعصابات خضراء. وهناك معارضون أفراد, قد تجاوزوا الخطوط الحمراء, مما وضعهم في دائرة الاتهام و مخالفتهم للقوانين و تقديمهم للقضاء. أما حركات الإصلاح الوطنية, فهي متعثرة بين الرغبة الحقيقية في الإصلاح و قناعة الشارع بها و موقف الحكومة من نواياها وشعاراتها المرفوعة من أجل الإصلاح. 

إذا كانت الحكومات, راضية حتى الآن, في تعاملها مع المعارضة و اقترابها أو ابتعادها عنها إلى درجة تثير تساؤلا عن مدى فاعليه هذه السياسة, فان عليها أن لا تعتمد على رضا هذه الجماعة أو تلك الجهة و إنما عليها أن تستمع إلى نبض الشارع و جماهيره. و ما تنجزه على الصعيد الاقتصادي و السياسي في مسيرة الإصلاح. أقول هذا الكلام مع قناعتي بأن المعارضة الحقيقية لا يمكن أن ترفع شعارا غير الإصلاح.

بقلم الدكتور سليمان عربيات
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))