ذاكرة المدينة

تحملني إليها أشواقي مع كل مساء. أحن إليها حنين الخلج (الناقة التي فقدت وليدها) إلى ضيرها (وليدها). تعاتبني وهي تدري بأنني أحبها. فما أطبقت عيني بعد سهاد ليل شتائي ، إلا وقد رويت ظمأي من حسنها وعطرت جسدي المتعب من زهور ياسمينها ورمانها وريحانها ودحنونها وبقلها وعشبها.

ها أنا اليوم أقف في حضرتك حاملاً دفتر العشق وذكريات العمر لأقرأ على مسامعك ما فعلته بي الأيام وما فعلت في تلك الأيام ولأروي حكايات طفولتي وشبابي وتجارب الزمان لعقود غابرات ولزمان قادم.

فتحت اليوم "صندوق أمي" المرأة الحكيمة الراحلة ، الغالية "ست الحبايب" وكانت قد حفظت في داخله حكايا "الطفل المدلل" وقطعاً من ملابسه التقليدية. أذكر أن أول ما قدمته لي كان مبلغاً من المال وفرته لي من حصاد عمرها وخبأته من راتبي أثناء سفري لأمريكا للدراسة ، وكانت أمنيتها أن تجد لي بنت الحلال حتى تفرح بي في حياتها ، وقد تحقق لها هذا الحلم وسعدت بأحفادي.

أيتها المدينة الشامخة يا صاحبة الكبرياء والنخوة "يا شيخة" المدن ، أيتها الولود العنود ، ويا صاحبة العصمة والحمية ويا سيدة القلعة يا حارسة النبع المقدس ، يا أم الأوائل ويا مصنع الرجال ويا من حضرت وشهدت على البيعة الهاشمية ، عليك السلام وعلى أهلك أهلي الأوفياء السلام. ها أنا أعبر اليك من بوابتك الشرقية لأنثر على قدميك الزهور البرية وقوارير العطر المعتقة. أيتها الجميلة الساكنة الساجدة في محرابها الأزلي ، فقد عدت إليك مع أطفالك الأبرياء لنقرأ من جديد في الكتاتيب ومدرسة السلط الثانوية ، الحروف الأبجدية.

في كل الأماكن ، خبأت "صرة" من الذكريات. رحت أطوف في كل زقاق وحارة أبحث عن آثار أقدامنا المنحوتة على البلاط الحجري أو على جدران من الحجر الأصفر في أبنيتك التاريخية وقد تمردت على عوامل الزمن واستعصت على أوامر الهدم وبقيت نوافذها مفتوحه تطل من عبرها وجوه الجميلات العذارى الطاهرات من بنات المدينة. ما زالت سطول "الزريعة" من الورد الجوري وشجيرات الياسمين والريحان تطل بأعناقها الخجولة وترش عبقها الفطري على العابرين من العشاق.

أصعد العقبة والسلالم ، أجلس على حجر على الرصيف ، أتحدث إليه وأقدم نفسي له فيبتسم وأغادر إلى جهة أخرى في المدينة ومن حارة إلى حارة ومن زقاق إلى زقاق ، وكأن ماضي المكان قد عاد إلى هنا في لحظة ثم اختفى مع ضباب الليل وبين رذاذ المطر وقناديل الكهرباء.

أيتها السلط ، الشاهدة على عصر الحب والبدايات ، الوارثة لكبرياء الآباء والأجداد ، زراع الأرض الكروم والتين والزيتون وملحها وجودها. أيتها العربية الأردنية ، يا ذاكرة الثقافة والشعر يا أم الأردنيين في صباهم وشبابهم عندما جاؤوا إليك حاملين متاعهم وزوادتهم من جميد الكرك وبقول اربد ومعان وعمان ، ليدخلوا مدرستك الأولى.

يا حبيبة عرار ووصفي وعبدالسلام وأديب وهبة.. يا ذاكرة الكبار من الأوائل الذي صنعوا مجدك ووضعوا اسمك على قائمة الشرف والشهادة والولاء للقادة من بني هاشم وللدولة الأردنية.

السلام عليك أيتها المدينة الغالية وسلام الله على أهلك الطيبين.

د. سليمان عربيات
تعليقات (فيس بوك)
0تعليقات (بلوجر)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))